الحرب لم تبدأ. الحرب بدأت. الحرب موشكة على النهاية. كرّرت وسائل الإعلام جملاً كثيرة، لكنها لم تكن سوى تعابير مختلفة عن شيء واحد: اندلاع صراع العمالقة بين «فايسبوك» و «غوغل». مهما بدت المعركة غرائبيّة، بل ربما استبعدتها بعض العقول، إلا أنها واقعيّة تماماً. ابدأ من هذا المقال، أين تقرأه؟ كيف وصلت إليه؟ هل دخلت إلى «غوغل» وطالعت المواقع التي تدخلها يوميّاً، أم أن هناك من لفت نظرك إليه أو ربما شاركك به، عبر صفحتك على «فايسبوك»؟ في الجولة الأقرب من هذه المعركة التي لا تعبر إلا عن تعملق ظاهرة الشبكات، بدا «غوغل» منهزماً! إذ أعلن أنه سيدرج في نتائج بحوثه المعلومات الموجودة على الـ «ستاتوس» في «فايسبوك»، إضافة إلى تغريدات «تويتر». إذاً، يقر المحرك العملاق بأهميّة «فايسبوك» و «تويتر»، ويتراجع عن تجاهله سابقاً لهما. في المقابل، تقدّم «فايسبوك» خطوة إلى الأمام، مُعلنة عن قرب إطلاقها محرك بحث خاصاً بها. بقول آخر، يتقدّم «فايسبوك» ويقتحم الأرض الأعز على قلب «غوغل»: البحث على المعلومات عبر الانترنت. هل إنه الصراع التقليدي بين القديم («غوغل» شبه المهيمن على عمليات البحث عن المعلومات على الانترنت) والحديث المتمثّل بـ «فايسبوك» ومجمل ظاهرة الشبكات الاجتماعيّة؟ ربما. ومع تحوّل الانترنت إلى معطى بديهي في حياة الناس، مثل وصول الكهرباء إلى المنازل في المجتمعات الطبيعيّة (مع الاعتذار للشعوب في لبنان وسورية والعراق ومصر و...)، يصبح الأمر المهم ليس الشبكة ولا الوصول إليها، بل ما الذي يجري عليها. لنفكر مرّة أخرى: كم من الوقت نقضيه متصفحين الشبكات الاجتماعيّة مقابل الوقت الذي نصرفه في البحث عن المعلومات على الانترنت؟ حتى المواقع الشبكيّة، صار قسم ضخم منها مهتماً بصفحاته على «فايسبوك» بما لا يقل (بل أحياناً يفوق) عن اهتمامه بالمواقع نفسها! إذا تابعنا التفكير بتلك الطريقة، لا يكون صعباً فهم الاهتمام الضخم بالصراع بين «فايسبوك» و «غوغل»، وهو صراع يرسم مستقبل الانترنت، بل حتى مسارها من الآن فصاعداً. نقمة مواقع التواصل الأرجح أن تعملق ظاهرة الشبكات الاجتماعيّة التي يعتبر العملاق «فايسبوك» أيقونتها بامتياز، لا يحتاج كثيراً من البراهين. وتؤيّد الأرقام تلك الظاهرة بصورة مذهلة، إضافة إلى أنها تبرز علاقتها مع تحوّل الانترنت إلى شيء موجود بصورة دائمة مع الناس. لنقرأ الأرقام التالية عن تطبيق «فايسبوك» للأجهزة المحمولة (الخليوي والـ «تابلت»): يصل جمهور «فايسبوك» إلى 1.4 بليون شخص(لا يتجاوز جمهور «تويتر» الـ300 مليون)، ما يزيد عن خُمس سكان الكرة الأرضيّة، بينهم 72 في المئة من الأفراد البالغين الذين يستخدمون الانترنت، ويكتفي 580 شخصاً بالتطبيق المحمول لـ «فايسبوك» حصريّاً، ويدخل قرابة ثلث جمهور «فايسبوك» إلى صفحاتهم مباشرة (وأولاً) من أجهزتهم المحمولة، ويستخدم 800 مليون شخص بريد «فايسبوك»، مع ملاحظة أن حصة «فايسبوك» من جمهور الشبكات الاجتماعيّة عبر الأجهزة المحمولة تفوق الـ60 في المئة. وفي المتوسط، يقضي الجمهور 42 دقيقة يوميّاً لكل فرد، في مطالعة «فايسبوك»، ويتدنى الرقم إلى 17 دقيقة مع «تويتر»، لكنه أقل من ذلك بالنسبة إلى «غوغل»! في أرقام أخرى، يدخل ثلث الجمهور إلى مواقع الانترنت انطلاقاً من حساباتهم على الشبكات الاجتماعية، ولم يكن الرقم سوى 11 في المئة قبل أربع سنوات! لنلاحظ أن «فايسبوك» يحوز منفرداً نسبة 25 في المئة، تاركاً 5 في المئة لبقية الشبكات الاجتماعيّة! وفي المقابل، انخفضت نسبة من يدخلون إلى الانترنت عبر محركات البحث من 40 في المئة في 2011 إلى 30 في المئة حاضراً. متاهة للإعلام وناسه في أوقات سابقة، نجح «غوغل» في الفوز بمعركة الإعلام على الانترنت، خصوصاً في وجه المنافسة الشرسة من قِبَل متصفّح «ياهوو». وحينها، استعمل «غوغل» عضلاته الضخمة المهيمنة على عمليات البحث، فجعل مواد الإعلام جزءاً من نتائج البحث، ثم أفرد لها قسماً خاصاً بها. وبسرعة، نُسِجَت علاقات قويّة بين المواقع الإعلاميّة الشبكيّة و «غوغل». وتدريجيّاً، رسّخ «غوغل» صورته كمصدر للأنباء المتجددة على الشبكة، ما رسّخ صورة القسم الإعلامي في «ياهوو» كإعادة بطيئة للأخبار. وزادت قوة «غوغل» بعد شرائه موقع «يوتيوب» الشهير عام 2006، الوطيد الصلة بظاهرة الإعلام المرئي- المسموع بأصنافه كافة، بل إنه صار إعلاماً بصريّاً من نوع خاص يقدّم بـ76 لغة. ولكن ذلك الانتصار صار مهدّداً، مع استمرار الصعود في ظاهرة الشبكات الاجتماعيّة، خصوصاً بعد أن بات ربع الجمهور يدخل إلى «يوتيوب» انطلاقاً من «فايسبوك». وسدّد «فايسبوك» ضربة موجعة إلى رأس البُعد الإعلامي في «غوغل» عبر إنجازه اتفاقيّات متنوّعة مع كبريات الصحف العالميّة، تتضمّن إيصال أخبارها المتواترة إلى صفحات الأفراد على «فايسبوك». وبدا الأمر كأنه إعادة بالمقلوب لمشهد المعركة بين «غوغل» و «ياهوو». ويعني ذلك أن جمهور «فايسبوك» سيدخل إلى المواقع الإعلاميّة عبر الملخّصات القصيرة التي ستظهر على صفحاته بصورة مباشرة. بديهي القول أن الأمر يشبه أيضاً السيطرة على عقول الجمهور، لأن من يطالع «فايسبوك» سيصبح تدريجيّاً ميّالاً إلى الحصول على الأنباء عبر ما يرشح إليه من «فايسبوك»، أو بمعنى أدق، ما يصله بفضل الاتفاقيات بين عملاق الشبكات الاجتماعيّة والمؤسّسات الإعلامية. وكلما زاد عدد من يدخلون إلى مواقع الإعلام عبر «فايسبوك»، سواء من صفحاتهم مباشرة أو عبر صفحات المؤسّسات الإعلاميّة على «فايسبوك»، زادت الأموال التي تتدفق على عملاق الشبكات الاجتماعيّة. واستطراداً، يعني ذلك هجراناً متزايداً لـ «غوغل»، مع إضعاف مصدر أساسي لمداخيله. وتعزّز تلك المعطيات مخاوف المهتمين بالحريات الإلكترونيّة من تحوّل «فايسبوك» إلى شرنقة تحيط بأفراده، بمعنى أن صورة العالم لديهم تصبح هي ما يقدّم لهم عبر صفحاتهم في «فايسبوك»! ولعل تلك الصورة أشد رعباً من صورة الهيمنة الكليّة لـ «الأخ الأكبر»، التي رسمها الكاتب جورج أورويل في روايته الشهيرة «1984». ويحتاج ذلك الأمر إلى نقاش منفصل. في المقابل، من باب الإنصاف أيضاً، ليس «فايسبوك» وحيداً في مسعى التقدّم للاستيلاء على الصورة «القديمة» للانترنت. ففي السنة الجارية، أعلن موقع «سناب شات» Snapchat المتخصّص بالنصوص القصيرة القابلة للمحو فوريّاً ونهائيّاً، عن إطلاق برنامج «ديسكوفر» لتقديم الأخبار. وينسّق «ديسكوفر» عمله مع مؤسّسات إعلاميّة بارزة تشمل «ناشيونال جيوغرافيك» و «دايلي مايل». وبسرعة، بيّنت الأرقام أن كل قصة (سواء نص أم شريط مصوّر)، ينشره «سناب شات» عبر «ديسكوفر»، يحوز مشاهدات تتراوح بين نصف مليون ومليون مشاهدة فوريّة. وتعود تلك المشاهدات بآلاف الدولارات على موقع «سناب شات». والأرجح أن تلك الظاهرة مجرد معلم آخر على تحوّل عميق.