التافهون يشتهرون والمتطرفون يشتهرون أيضا والشهرة سلطة بشكل ما. أغلب الناس يتصور أن شهرة الأشخاص مرتبطة بقيمة ما يقدمون، وبما أن الحقيقة غير ذلك بالطبع، فمن المؤسف أن يمتلك التافهون والمتطرفون قيادة تفكير المجتمعات تساوقا مع ذلك التصور الخاطئ. ولكن لماذا ازدادت شهرة هذين النوعين من الناس في الآونة الأخيرة، هل هناك مؤامرة ما بالضرورة؟ للأمر في نظري علاقة بالطبيعة الاقتصادية للإعلام الحديث، فلعل الجميع يعلم أن سوق الدعاية والإعلان تعد المورد الأول للإعلام الفضائي، وهذا ما يجعل نسبة المشاهدة هي المعيار الأول لأهمية ما تقدمه هذه القنوات. فالبرنامج الأفضل هو ذلك الذي يحقق نسب مشاهدة أعلى ويستقطب بالتالي معلنين أكثر، أولئك الذين يودون أن تتزامن إعلاناتهم الدعائية مع البرامج التي تحظى بأوفر حظ من المشاهدة. لذلك فمن المتوقع أن "يتراجع" الالتفات إلى القيمة المعرفية والرسالة الحضارية، مقابل الاهتمام بما يستقطب الجماهير وإن خلا من أي قيمة. هذا التراجع نتيجة طبيعية لما حدث من تشابك بين السوق والإعلام، ذلك التشابك الذي نتج عنه ما نشاهده من أنماط استهلاكية حولنا. للأمر علاقة أيضا بالمستوى الجمعي لوعي الجماهير أيضا، وهذا من سوء حظ منطقتنا بالذات، فقد اجتاح هذا الشكل من الإعلام منطقتنا متصادفا مع مستوى منخفض من الوعي أصلا، فصار أن أصبح هذا الوعي الجماهيري المنخفض هو الموجه لبوصلة الإعلام، وليس العكس. لم تعد عبارة "ما يطلبه الجمهور" مقتصرة على تلبية الأذواق في الأغنيات الشعبية والمشاهد الكوميدية، بل تعدت ذلك بفضل هذا الشكل الجديد إلى الاستجابة لقوالب الجماهير النمطية من رؤى وأفكار في قضايا معرفية مصيرية. الجادون مملون، عندما يتكلمون في الثقافة، والمعتدلون يفتقدون إلى حس الإثارة. وبالطبع ليس هذا ما تنشده الجماهير، فأغلب الجماهير لدينا ينطبق عليهم وصف كريستيان هبل بأنهم "يصفقون للألعاب النارية، ولا يصفقون لشروق الشمس". هذا ما يعرفه تجار الإعلام الفضائي جيدا، فيعطون الجماهير ما تريد من إثارة عبر التصريحات النارية لأحد المتطرفين، أو من خلال المقالب السخيفة في أحد البرامج التافهة. لفهم هذه الاستراتيجية، علينا فقط ملاحظة ما تعتمد اختياره القنوات الفضائية في تشويقاتها التقديمية لبرامجها، عندما تعمد إلى أكثر الأجزاء إثارة "للغرائز البدائية" في الإنسان من أجل اجتذاب القدر الأكبر من المشاهدين. وأنا هنا لا أعني الغرائز المتعلقة بالجنس فقط، بل أقصد المفهوم الأشمل للعبارة، كاستفزاز الغضب الجاهلي، أو مغازلة النزوع إلى الخرافة والغرائبية. ينال المشهور في المجتمعات المتراجعة معرفيا امتيازا بأن يتحدث في كل شيء، وسيجد دائما من يسمعه ولو تكلم في غير دائرة معرفته، وهذا فقط لأنه مشهور! يعرف الجادون ذلك، ولكنهم لا يستغلونه احتراما لأنفسهم ولمستمعيهم، ولكن ماذا عن المزيفين؟ غالبا سيفعلون، بل لعلهم يستمتعون إذا ما وفر لهم ذلك مزيدا من لفت الانتباه. علينا فقط مراقبة ذلك وانتظار ما يحدث من انقلاب قيمي ينتج عن وعي يتم تشكيله بأياد صانعة للتفاهة. تكمن الكارثة في أن الأمر سيدور في "علاقة جدلية"، فالجمهور المتشوف للتفاهة والتطرف، يسهم في صعود مزيد من التافهين والمتطرفين، كما أن الصاعدين من التافهين والمتطرفين سيسهمون في تكريس المزيد من التفاهة والتطرف في الوعي الجمعي للجماهير. هكذا يحدث في عجلة مفرغة يصعب الانفكاك من حتميتها. لذلك، فمن السطحية أن تتساءل عن سر شهرة تافه بعد اليوم، وكذلك عن شهرة متطرف ما، لأن الجواب سيكون محمولا في سؤالك نفسه، نعم يا صديقي: التافه مشهور لأنه تافه، والمتطرف مشهور لأنه متطرف، وهناك من حاز ذروة المجد والشهرة لأنه متطرف وتافه في نفس الوقت. هكذا هو الأمر ببساطة في ظل الإعلام الفضائي. كان العالم في ما مضى يشكو من الرقابة الحكومية التي تمارسها أغلب الدول على المواد الإعلامية مستغلة في رقابتها وتوجيهها، كونها الممول الرئيس لقنوات الإعلام والنشر. ولكن العالم لم يحظ -خصوصا في منطقتنا- بالبديل الأفضل للأسف. لأن تلك الحكومات مهما بلغت في وصايتها لن تؤدي إلى حجب القيم والمعارف ما لم يصطدم المعروض منها مع سياساتها وأيديولوجياتها. في حين أن الذي حصلنا عليه الآن مع هذا الشكل الإعلامي الحالي ليس حجب القيم والمعارف، بل إهمالها والسخرية منها إذا لم ترتبط العناية بها بجدوى مادية مباشرة، وفي هذا كل الخطر. إذن، فالمؤامرة موجودة وغير موجودة في نفس الوقت. ففي حين أننا لا نمتلك دليلا على أن ما يحدث هو تنفيذ لخطة تهدف إلى هدم الوعي القيمي لمجتمعاتنا بشكل مقصود. فالدلائل متوافرة أيضا على أن التركيبة الاقتصادية لهذا النوع من الإعلام لا تستقيم بغير العبور من خلال النيل من ذلك الوعي القيمي لدينا.