×
محافظة مكة المكرمة

وفاة الفنان عبدالرحمن الخريجي

صورة الخبر

كانت مضامين الكتابة قبل الطوفان مختلفة عمَّا هي عليه الآن. لا أقصد طوفان نوح الذي اجتاح بلاد الرافدين، بل الطوفان الذي يجتاح العالم في هذه السنوات الموحشة؛ طوفان العنف والإرهاب الذي يعيث في الأرض فسادا، حتى صار موضوع الساعة وكل الساعات. أصبح من يتناول فكرة أو قضية مختلفة شخصاً يغرّد خارج السرب. بين ليلة وضحاها، وبدون مقدمات، وبسبب أجواء ما بعد الطوفان الملتهبة، تحوّل بعضهم إلى كتَّابٍ يفتون في الشأن السياسي بثقة يُحسدون عليها. وهات يا عَكّ! وما أسهل أن يمتطي المرء صهوة الشطارة في محيط يصح عليه المثل الشعبي القائل: كله عند العرب صابون. ليس على من يريد الإدلاء بدلوه- سواء كان أستاذا أكاديميا أو مهندسا أو بيطريا- سوى تحويل المرئي والمسموع إلى مكتوب، أي تحويل ما تضخّه الفضائيات العربية والعالمية يوميا، ويشاهده القاصي والداني، إلى مقالات عصماء لا تضيف شيئا جديدا. هل هنالك أسهل من هذه المهمة في غياب مختبر صحافي أو ثقافي للجودة النوعية؟ ولأن الأزمات غربال المواقف والنوايا، فقد أخفق بعض كتَّاب الزوايا السياسية المنفرجة في توخي الموضوعية احتراما لذكاء القارئ. لم تسعفهم حتى الشهادات العليا في العلوم السياسية في قراءة المشهد قراءة صحيحة. ذلك أنَّ لكل منهم موقفه المسبق من الأحداث. ومن ثَمَّ يصبح الطائر عنزا، والنملة ناقة، والحبَّة قُبَّة وفقا لتلك المواقف المسبقة. ومشكلة هذا النموذج من (الكَتَبَةِ) أن رياح الأحداث جرت، وما زالت تجري، خلافاً لتحليلاته وتوقعاته. ولو شُفِيَ من داء المكابرة، وعاد إلى أرشيف كتاباته، لتراجع عن كثير من الآراء. وإذا كان هذا هو شأن الضالعين في الشأن السياسي، فما بالك بمن يتعلم الحلاقة في رؤوس الصلعان واليتامى والمجانين! لا فرق، أحيانا، بين مقال سياسي هو عبارة عن تحصيل حاصل، وبين ثرثرة غير منتجة حول الأحداث الساخنة في مجالسنا الخاصة. في مجالسنا الخاصة نتحول جميعا إلى محللين سياسيين، نشخّص الأزمات ونقترح المخارج والحلول. مع أنَّ مِنَّا من لا يعرف كيف يدير حياته الخاصة، أو يعالج مشاكله المعلَّقة مع من حوله. يعني: طبيبٌ يداوي الناسَ وهو عليل. فإذا لم تشارك في ذلك الصخب غير المنتج، اعتُبِر صمتك جهلاً في أحسن الأحوال. واعتُبِر في أسوئها، سلبيةً وانسحابا. قبل الطوفان، كان الكاتب يتناول قضايا اجتماعية، والأديب يتناول قضايا أدبية، والفنان قضايا فنية، وكل صاحب اختصاص يتناول قضايا لها علاقة باهتماماته. أذكر أن أحد الكتاب قد كرّس قلمه ولسنوات للحديث عن أضرار التدخين الصحية والاجتماعية والاقتصادية. لا أعرف كم عدد المدخنين الذين أقلعوا عن عادة التدخين على يديه. لكننا خشينا عليه، آنذاك، من شركات التبغ العالمية. بعد الطوفان تُرك الحبل على الغارب، ولم يعد مستغربا أن يترك كل ذي اختصاص مجالَ إبداعه فيكتب في الشأن السياسي. و.. من تكلم في غير فنّه أتى بالعجائب! أما من لم يجد له منبرا صحفيا فقد لجأ إلى حارَة كُلْ مِيْن أِيْدُه إِلُه. أقصد مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت. فإذا تابعتَ أكثر ما يكتب في ذلك الشأن وجدتَه محاولةً لشرح ما لا يحتاج إلى شرح؛ أي أنه لا يختلف كثيراً عن قول عادل إمام: فوق أنها كانت بتشتغل رقَّاصة.. في الحقيقة يعني كانت بترقص! ما أجمل الأيام التي سبقت الطوفان! متخصص في الإدارة المقارنة