في شهر رمضان والذي لم نكن نعرف أنه حلّ إلا بعناء، إمّا عن طريق المذياع أو إشعال النّار في قمم الجبال والمرتفعات، وبعدها تطلق المدفعية عدة طلقات من قلعة جبل (ذره) والتي تمت تسميتها الآن (بالجبل الأخضر) أو قلعة شمسان وهما قلعتان تاريخيتان شهيرتان تمّ بناؤهما خلال العهد التركي. كم كانت أيام رمضان ولياليه عبادة ووفادة وأجواءً جميلة رائعة، حيث كان يتوافق مع فصل الشتاء البارد وهطول أمطار خير وبركة وسحايب تبشر بصيام بإذن الله مُريح ومنعش تقبلّ الله منا ومن الجميع. وكانت أبها الوادعة بعدد سكانها المحدود والذين يستعدون للاحتفاء بفرحة، وأتذكر لم يكن هناك وسائل ترفيه وكما حال اليوم! ونحمد الله على ذلك فقط كان المذياع الوسيلة الوحيدة وحتى الكهرباء لم تكن متوفرة إلا بحدود ضيّقة، وكانت الأسر الموسرة تضيء منزلها بضوء (الأتريك) والآخرون على ضوء الفانوس أو ما يسمّى في أبها (بالشيشة) أو اللّنبة ومع هذا كانت أيام وليالي رمضان في أبها رائعة بكل المعاني، مُتْعة وسمرٌ وسحْر الكلام كل فئة عمْرية تخاطب عمْرها من خلال اللقاءات والزيارات تتمّ بعد صلاة التراويح بين الأهل والجيران كعائلة وأسرة واحدة. وأجزم أنني لم أجد مثيلا للتجمّع والتواصل في أي مكان آخر. حتى وجبة الإفطار كان لها نصيب وافر حيث يطْعم الجار جاره ممّا تم صنعه بأيدي ربّات البيوت، وكان للوجبات الأبهاوية لذّة ونكهة ما زالت تضرب في رأسي حتى اليوم خبز برّ طبيعي من الميفا (التّنور) المصنوع من الفخّار والسمبوسة من البرّ الطبيعي يتمّ قليها في زيت السمسم (السّليط) وحنيذ العمّ فايع ولقمة القاضي و(الرّواني) وقمر الدّين وشراب التّوت والذي يسمّونه في أبها (الشّربيت). وللحقيقة بل أؤكدها انه لا مثيل للمرأة العسيرية في المطبخ وحرصها على أن تقوم بإعداد أنواع الطعام، وتقوم هي بنظافة بيتها وما زالت الأغلبية منهن يقمْن بهذه الواجبات المنزلية حتى اليوم، وكنّا نعرف موعد الإفطار من خلال إضاءة خضراء على مئذنة الجامع برأس الملّح يضيئها الشيخ مرعي بن حريد، وفي يوم قام بعض الصّبية بإضاءتها قبل موعد الإفطار بدقائق وأفطر الجميع، وذكر لي خال الأبناء ابراهيم القبيسي أن الشيخ إبراهيم الحديثي أصدر فتوى بقضاء وصيام ذلك اليوم. وأتذكر أن الوالد - حفظه الله - كان يفطر أول يوم مع الأسرة أماّ بقية أيام الشهر وقبل ذهابه للعمرة كان الفطور يومياً عند واحد من الجماعة، وكانت نساء أبها الرائعات يتفننّ في الأكلات الرمضانية المتنوّعة واللذيذة وكان الجيران يتبادلون الأكلات كطعْمة. وكانت منازل أبها المدينة بما فيها بيتنا يعيش مساء كل إثنين حركة غير طبيعية، حيث يحلّ علينا للمبيت الأرحام من قريتي هضبة بني جريّ وأمْ سقا استعداداً لسوق الثلاثاء، وكانت بعض زوجات الوالد من تلك القرى يبْذلن جهداً استثنائيا بمستوى إيواء 7 نجوم!. وبعد صلاة التراويح نجتمع نحن أطفال البديع بعد صلاة التراويح، ونرددّ تحت كلّ بيت (داح داح يا سمن ممْلوح هو به عشاء والا غداء والا نسْري) والاّ طلبنا المعْتلي!! ويا حنّان يا منّان يا أرْحم الراحمين وكل بيت يعطينا من إفطاره! ويا ويل من يبخل ولا يعطينا نرددّ دعاءً بريئاً مختلف! حقّاً إنه الزمن الجميل