في رسالته في "التسامح"، يؤكد جون لوك "1632-1704" أن كثيرين في زمنه يفاخرون بما يعتقدون أنه الإيمان الحق الذي لا يشاركهم فيه أحد، فتلك علامة على شهوة البشر في تسلط كل منهم على الآخر أكثر من حب الكنيسة، وإذا زعم أي إنسان استخدام السيف والنار لإجبار الناس على عقائد معينة والانتماء إلى عبادات وطقوس معينة -بغض النظر عن الجانب الأخلاقي- فمن المؤكد أن من يفعل ذلك يقصد تشكيل مجتمع يتشارك في العقيدة نفسها، وليس بمستغرب على هؤلاء أن يستخدموا كل أنواع الأسلحة التي لا تنتسب إلى عقيدتهم المسيحية! ويعتبِر "لوك" أن التسامح بين المختلفين في العقيدة المسيحية يتفق مع "العهد الجديد"، ويتفق أيضا مع مقتضيات العقل الإنساني، ولكن من أجل ألا يدّعي الذين يمارسون الاضطهاد والعنف والقسوة باسم المسيحية والصالح العام، ومن أجل ألا يسعى آخرون بدعوى الدّين إلى أن يجدوا فيه خلاصا لما ارتكبوه من أخطاء وآثام، ومن أجل ألا يفرض أحد على نفسه أو غيره أي شيء بدعوى الولاء والطاعة، فإنه ينبغي التمييز بين مهام الحكم المدني وبين الدين، بتأسيس الحدود العادلة والفاصلة بينهما، فمن دون ذلك لن تكون هنالك نهايات للخلافات التي تنشأ على الدوام بين من يملكون الاهتمام بصالح نفوس البشر من جهة، وبين من يهتمون بصالح الدولة من جهة أخرى، على أساس أن الدولة هي مجتمع من البشر يتشكل بهدف توفير الخيرات المدنية والحفاظ عليها وتنميتها، والمقصود بالخيرات المدنية: الحياة والصحة والراحة والحرية والتملك وما شابه ذلك. ودور الحاكم المدني تطبيق القوانين بلا استثناء لتوفير الضمانات التي تسمح لكل الناس بالامتلاك العادل للأشياء الدنيوية، وإذا حاول أحد المغامرة بانتهاك قوانين العدل والمساواة، فإن ما يجب أن يمنعه هو الخوف من حرمانه من الخيرات المدنية التي من حقه أن يتمتع بها، وإذ إنه لا يوجد إنسان يقبل بإرادته إيقاع هذا العقاب على نفسه، فإن الحاكم ينبغي أن تكون لديه سلطة وقوة لمعاقبة من ينتهك حقوق الغير، وذلك وفق ثلاثة اعتبارات: الاعتبار الأول، هو أن الحاكم المدني أو غيره ليس مفوضا بسلطة فرض إيمان معين على غيره من البشر. والاعتبار الثاني، هو أن رعاية النفوس ليست من شأن الحاكم المدني؛ فسلطة الحكم المدني لا تفرض على الحاكم التغاضي عن إنسانيته أو عن "مسيحيته"، وكل إنسان مكلف بأن ينبه وينصح ويقنع الآخرين وفقا لإرادة الخير للبشر، ولكن سنّ القوانين والطاعة والإرغام بالسيف هذا من سلطة الحاكم وحده التي لا تمتد إلى تأسيس قوانين تتعلق بالإيمان وبأشكال العبادة. والاعتبار الثالث، أن العناية بخلاص نفوس البشر ليست من مهام الحاكم المدني، فسلطته تتعلق بالخيرات المدنية للبشر وحمايتها. ويشير "لوك" إلى أن أية كنيسة ليست مكلفة -بحكم واجب التسامح- بالاحتفاظ بأي إنسان في حضنها دام أنه يصرّ على الخروج على قوانين المجتمع التي هي أساس الرابط الاجتماعي، ورغم هذا في العقاب المترتب على ذلك يجب ألا يضاف إلى الحرمان "الطرد من الكنيسة" أي فعل أو كلام خادش أو مضر بالبدن أو الممتلكات بالنسبة لمن يقع عليه الحرمان. ولا يحق لأي شخص أن يحقد على آخر بسبب انتمائه إلى كنيسة أخرى أو دين آخر، إذ من اللازم أن تحفظ له جميع حقوق المواطنة، ذلك أن هذه الحقوق لا علاقة لها بالدين، وبالتالي يجب ألا يلحق بالشخص أي عنف سواء كان مسيحيا أو وثنيا، فيجب ألا نقنع بوضع معايير ضيقة للعدالة والمحبة والإحسان، بل يجب أن نضيف لها التسامح، فالتسامح المتبادل بين المختلفين دينيا ينطبق أيضا على الكنائس ذاتها. وعلى هذا الأساس لا يحق للأفراد ولا للكنيسة ولا للدولة الاعتداء على الحقوق المدنية والخيرات الدنيوية بدعوى الدين، وليس كافيا أن يمتنع رجال الكنيسة عن العنف والنهب والسلب وأساليب الاضطهاد، بل هم ملزمون بالتذكير بالتزامات السلام والخير بين البشر، والدعوة إلى المحبة والوداعة، وبذلك فإن التركي "المسلم" ليس هرطيقا أو منشقا بالنسبة إلى المسيحي، كما أن المسيحي إذا تحول إلى الإسلام فإنه لا يمكن أن يصبح كذلك... كفانا إذن الحديث عن الهرطقة التي لا تتعلق إلا بالعقيدة.