أقيمت يوم الجمعة الماضية صلاة حاشدة في الكويت شارك فيها أمير البلاد ومُصلّون سنّة وشيعة في مسجد الدولة الكبير. مثل هذا الخبر كان عادياً وروتينياً لا يستوقف أحداً قبل بضع سنوات. لكنه هذه الأيام يلفت الانتباه بقوة، وذلك بعد وقوع التفجير الإجرامي يوم 26 يونيو الماضي في مسجد الإمام الصادق، والذي أعلن تنظيم "داعش" الإرهابي الذي ينتحل صفة الإسلام مسؤوليته عن اقتراف هذه المجزرة. قبل إقامة هذه الصلاة، جرت مراسيم عزاء بضحايا الجريمة في مسجد سني، للدلالة على التضامن بين المسلمين في وجه القتلة. هذه مظاهر طيبة ومشرقة للألفة والتراحم بين أبناء الوطن الواحد وتعزيز الوحدة الوطنية، وبناء سد منيع في مواجهة الإرهاب الذي يرتدي لبوساً دينياً زائفاً، وبما يحبط الأهداف البعيدة والمرامي الخبيثة للقتلة في الايقاع بين المؤمنين أتباع الدين الواحد، وإثارة نزاعات وشقاقات خطيرة ما بينهم. في هذه الغضون فإن ما يثر الاهتمام ويسترعي الانتباه، أن هذه المظاهر الإيجابية التي تجسدت في الكويت، والتي تعتبر في سياق العلاقة الطيبة التاريخية بين مكوّني الإسلام أمراً بديهياً وواجب الاتباع، تكاد تختفي ولا يلحظ لها المرء أثراً أو وجوداً في بلدان عربية وإسلامية أخرى. رغم أن العديد من البلدان والمجتمعات عانت وما زالت تعاني ويلات الإرهاب بمختلف أشكاله ومظاهره، والذي يذهب ضحيته في الغالب الأعم ضحايا أبرياء من المدنيين العزل وبسطاء الناس. يتساءل المرء هنا عن الدور المنوط برجال الدين المسلمين في كل مكان، ليس في التقريب بين أصحاب المذاهب بل بالجمع بينهم تحت راية الإيمان والأخوة في الله، ولماذا يبدو دورهم في هذه الظروف الحالكة غائباً أو مغيباً، وكثير منهم انغمسوا في اصطفافات مذهبية وحتى في التشاحن الطائفي البغيض، الأمر الذي ترك الساحات فارغة فسارع المتشددون والمتطرفون وحتى الإرهابيون إلى اهتبال الفرصة لملء الفراغ، وإطلاق خطاباتهم المحمومة التي تنعقد حول التفريق بين المسلمين والمباعدة فيما بينهم ورفع الحواجز الصفيقة ما بينهم، إلى بذر بذور الشكوك وتهيئة أجواء مقيتة من التنابذ. ولا ريب هنا أن شطراً كبيراً من رجال الدين يتعرضون بصور شتى لضغوط الأجواء السياسية وتشنجاتها، بما يمنعهم من أداء دورهم الذي كانوا يقومون به، أو قام به أسلافهم الدعاة والخطباء على مر عشرات السنوات في الجمع بين كلمة المؤمنين وإثارة مشاعر الرحمة والتودد بينهم، والرفض القاطع لأن يكون المسلم حرباً على أخيه المسلم ولا على بقية المؤمنين من الشركاء في الوطن. ومع ذلك فإن المرء يتطلع في هذه الظروف القاتمة وشديدة الحساسية، لأن ترتفع أصوات شجاعة بين المؤتمنين على قيادة صفوف المؤمنين، ترفض الطعن بالإخوة في الإيمان وفي الوطن، وتحذر من عقابيل التصنيف الطائفي والتحشيد العصابي، الذي لم يسبق لأمتنا أن واجهت مثيلاً له في أحلك الظروف من قبل. إن أمانة الضمير تستحث هؤلاء وغيرهم بالطبع من قادة الرأي العام على أن يكونوا سداً منيعاً في وجه الفتن، لا أن يسهم بعضهم في تأجيج الفتنة التي لم تعد للأسف الشديد نائمة، بل هي مستيقظة تقدح أنظارها شرراً. إن المحن تمتحن معادن الرجال، ونحن في محنة عز نظيرها.. تنتظر من يطفئ نيرانها، ومن يخاطب سواد الجمهور بكلمات سواء، ومن يستلهم الصفحات المضيئة من تاريخنا وتراثنا، ويرشد الجمهور إلى ينابيع الحكمة والرشاد، وعدم استسهال ركوب المركب السهل في إثارة الغرائز وشحن الضغائن، والوخيم في نتائجه وتبعاته على المجتمعات والأوطان. ومن دواعي المرارة أن مظاهر الاحتراب والتنازع الدموي تتغذى في جانب منها على التعبئة المريضة، التي يتجه أصحابها إلى الطعن في عقائد الفئة الأخرى. وإلى رجال الدين والقائمين على الهيئات الدينية، الذين لا يبذلون الجهد الكافي لإطفاء الفتنة، فإن المرء يتساءل مجدداً حول دور المؤسسات الفكرية والاجتماعية التي نذرت جهدها في سنوات خلت للتقريب بين المذاهب، وجمع شمل سائر رموز رجال الدين في ملتقيات ومنتديات ذات إشعاع.. لقد عزّ نشاط هذه المؤسسات وحضورها في وقت تشتد الحاجة إليها، حيث يتقدم الصفوف هذه الأيام في العديد من البلدان ويعتلي المنابر في دور العبادة متشددون من كل ملة وجماعة، ويضفي هؤلاء على تشددهم ليس فقط مسوح صحيح الدين، بل كذلك ما لا حصر له من ادعاءات احتكار الصواب السياسي والفقهي والشرعي والوطني والقومي.. إلى آخره، ويغيب صوت السماحة والاعتدال، وكل ما هو جامع ومشترك بين سائر المسلمين والمؤمنين. كانت الحاجة وما زالت هي أن تعمد مثل هذه المؤسسات إلى مضاعفة جهودها وتعميم أنشطتها وإيصال رسالتها إلى أكبر قاعدة من الجمهور، لا أن تنكفئ وينحسر حضورها، تحت ذريعة أن التوترات القائمة تحول بينها وبين أداء رسالتها، ذلك أن هذه التوترات تملي مضاعفة هذه الجهود، تماماً كما أن انتشار الأوبئة يقضي من الأطباء ومن هم في حكمهم تكثيف أنشطتهم والسهر على الصحة العامة، وهو ما يتطلب معالجة المرضى وتوفير بيئة صحية سليمة تمنع تفشي المرض وتحول قبل ذلك دون ظهوره.