ظاهرة الدين السياسي سمة غالبة في تواريخ الأديان، ولكنه ظهور مقرون بتباعد الملل والنحل المختلفة عن المنابع الأصيلة لتلك الأديان، وانصرافهم لدواعي الحال في المجتمع، وصراعاته الطبيعية بين فرقاء المصالح المتقاطعة سلباً. من فداحات التاريخ المعروف أن تلك الصراعات الدينية الدموية تصل إلى حد العدمية، وتتدثر بالدين، حتى إن الحروب الكبرى في التاريخ كانت دينية، أو كانت تستدعي الدين، توظيفاً لمآرب سياسية توسعية صرفة. حدث الأمر بين اليهودية التاريخية والمسيحية الأوروبية، كما جرى على المنوال نفسه بين الفرق المسيحية المتقاتلة والتي كانت تتهم بعضها بعضاً بالتجديف والكفر، وقد كتب المؤرخون ما كان من أمر الحروب الصليبية بين المسلمين العرب والمسيحيين الأوروبيين بشقيهم اللاتيني والانجلوسكسوني، ونرى في التاريخ المعاصر كيف تنبري المقدمات المتعصبة، لتشمل حزاماً نارياً للموت المجاني هنا وهناك. الحالة اليمنية ليست بعيدة عن الحالة العربية بعامة، سواء من حيث منشأ تيارات الإسلام السياسي بطيوف ألوانها، أو من حيث تداعياتها الراهنة، فقد نشأ الدين السياسي المعاصر في اليمن بالترافق مع فكر الإخوان المسلمين المنبثق من مصر على عهد الراحل حسن البنا، ومعروف أن البنا ورفاقه كانوا مهجوسين بتفاصيل إحيائية تاريخية، وأخرى قومية دينية، وثالثة منخطفة مع موديل الخصوصية العربسلامية المجافية لما جاء به المستعمرون الأجانب. في اليمن مثَل الراحل الجزائري إبراهيم الورتلاني.. الموفد خصيصاً من حركة الإخوان في الربع الثاني من القرن العشرين المنصرم، بداية العلاقة بين إخوان العالم العربي، ومشروع الإخوان في اليمن، وكانت المسألة بجملتها محكومة بقدر كبير من التماهي مع التاريخ والجغرافيا، ولم تكن الإيديولوجيا حاضرة كعامل حاسم في الموديل المطلوب، لكن المهم هنا أن روافد الفكر السياسي الديني العربي بنسخته الألفية الجديدة، تشاكلت وتعالقت في آن واحد، واستمرت الحال طوال مرحلة الازدهار للفكر القومي العربي بشقيه الحركي والبعثي، ثم الفكر القومي الناصري بالجُملة، فقد كان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر مؤثراً في جماهير الأمة ونخبها، لكنه لم يعتن بتقديم مشروع سياسي إيديولوجي على غرار البعثيين والحركيين، وربما كان التسارع السياسي في عهده سمة غالبة أفضت إلى غياب رؤية واضحة المعالم تجاه المشاريع الدينية السياسية، واليسارية العلمانية، والقومية الحالمة، وهي مشاريع شملت عموم العالم العربي، في تأكيد مُتجدد على وحدة السؤال المقرون بوحدة الجغرافيا والتاريخ، المدعومين بوحدة الحال والمآل. في اليمن تبلورت الحركة السياسية الدينية على نار هادئة، وكان المؤتمر الشعبي العام حاضناً براغماتياً لها في شمال اليمن.. نكاية بالحزب الاشتراكي اليمني في الجنوب، ومع تباشير وحدة مايو اليمنية لعام 1990، واقترانها بالتعددية السياسية المخاتلة، تبلور مشروع حزب الإصلاح الإسلامي تحت قيادتين مُعلنتين.. إحداهما قيادة دينية صرفة يمثلها رجل الدين الشيخ عبدالمجيد الزنداني، وأخرى اجتماعية قبلية يمثلها الشيخ الراحل عبد الله بن حسين الأحمر، وكان المشترك الأعلى بين حزب الإصلاح والمؤتمر الشعبي العام يتمثل في التحالف ضد مشروع الاشتراكيين العلماني اليساري، كما كانوا يصفونه.. لكن التحالف البراغماتي القاصر بين الإصلاح والمؤتمر الشعبي سرعان ما انفرط، لأنه لم يكن عقدياً إيديولوجياً، بل كان تكتيكياً نفعياً حتى العظم. بالترافق مع مشروع الإصلاح الإسلامي السياسي انبرت الجماعة السلفية الأكثر تشدداً في صعدة بزعامة الشيخ الراحل مقبل الوادعي السلفيون كانوا رافضين لانخراط حزب الإصلاح الإسلامي في العملية السياسية، كما واجه الاشتراكي ومن يناصره في مربع الانتظار الهجمة الكاسحة لتحالف الأوليغارشيا العسكرية والمالية المتحالفة مع الدين السياسي. جرت الأمور أثناء حرب عام 1994 بين مؤسستي الشمال والجنوب، وبعده أُخرج الاشتراكي وأنصاره من مربع الفعل المؤسسي، لتشهد اليمن متاهة جديدة، سرعان ما أفضت إلى انفراط تحالف حزب الحكم البراغماتي، مع حزب الإصلاح الإسلامي المترنح بين دفتي الإيديولوجيا والمنفعة، وبالترافق نشأ اللقاء المشترك من تحالف الاشتراكيين والإسلاميين والناصريين والقوميين بنسختيهم اليمانية والعربية، في سابقة لا نظير لها في العالم العربي. كان الاشتراكي الراحل جار الله عمر هو مهندس اللقاء المشترك، وقد كانت مبادرته تلك مزعجة لسلطان الحاكم وهيمنته، كما كان لجار الله عمر دور محوري في الإبقاء على تماسك الاشتراكي، وبالترافق معه.. كان الأُمناء العامون مُقبل والدكتور ياسين سعيد نعمان فاعلين في المعطى الصعب بطريقة راكزة. على خط متصل تبلور مشروع الدين السياسي في نسخته الزيدية الأكثر تشيعاً، وقد تحول تنظيم الشباب المؤمن من مُغالب لسيادة السلفية في صعدة، إلى جماعة سياسية مدعومة من إيران. الحوثيون تحولوا اليوم إلى نسخة مقابلة لعملة التعصب الديني الاستيهامي المتأرجح بين طرفي الحوثيين والقاعديين، ومن سار على شاكلتهم، وهنا تنزلت على فرقاء المتاهة إيديولوجيا سماوية بدت كما لو أنها صفة مطلقة لمن يتحصَّنون بالمقدس لمآرب دنيوية صرفة، وهذا النفر من الناس ينحدرون بالدين الصافي إلى مرابع الدنيا وخساساتها السياسية والنفعية، ولهذا السبب جاءت التسميات القادحة لهذا النمط من توظيف الأديان لصالح الإنسان، وقد شملت هذه التسميات المفاهيمية كامل الأديان المعروفة، سواء السماوية منها، أو غير السماوية.. لكنها اتخذت طابعاً أكثر فظاعةً وعنفاً في الأديان الإبراهيمية المعروف منها والغائبة في دهاليز الدهر، ولهذا قيل بالدين السياسي توصيفاً لمن يستخدمون الدين لأغراض سياسية، وهُم كثر، كما ذهب البعض إلى التفريق بين ثنائية الشريعة والحكمة.. لاحظ على سبيل المثال (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال) عند ابن رشد.. كما فرق آخرون بين الشريعة والحقيقة، كما عند الشعراني صاحب (الطبقات الكبرى) الذي يرى أن الشريعة التي يتقدَّم بها أصحاب الفرق ومجتهدوهم في التفسير والتأويل، تتباعد عن جوهر الحقيقة الدينية المتعالية على التضييق والتعصب.. وفي عصور التدوين تم استخدام مصطلح فقهاء السلطان للتعبير عن ذلك التماهي السلبي بين السلطان الدنيوي والنص الديني، بوصفه تماهياً ناجماً عن اجتهادات بشرية لا تخلو من المُخاتلة والمراوغة.. وفي أيامنا هذه نتحدث عن الدين السياسي بوصفه بعيداً كل البُعد عن مقاصد الشريعة ومنابعها الصافية. إن الدين السياسي المخطوف عن جوهر الدين الصافي، والممسوس باستجداء الأدنى للتدليل على ما هو أعلى، إنما يقع في مخالب الإيديولوجيا بوصفها نموذجاً اجتهادياً دنيوياً يحاول تقديم الجواب عن سؤال واقعي أرضي، بعيداً كل البُعد عن الميتافيزيقيا.. أي عن الجوهر الما ورائي الديني الغيبي الذي يقتضي فصلاً إجرائياً حاسماً بين الدين والدنيا، فالدين للحق المتعالي عن العباد، والدنيا لكلابها الضالة. قال الإمام الحكيم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: الدنيا جيفة.. من أراد منها شيئاً فليصبر على مُخالطة الكلاب. الدين السياسي رديف لكامل المصطلحات التاريخية المفاهيمية التي لاحظت وجه العلاقة بين الدين والإيديولوجيا، وكيف أن هذه العلاقة ترنَّحت بين مثال إيديولوجي باحث عن مجتمع ألفي فاضل، و المدرسة الجامدة التي حوَّلت الإيديولوجيا إلى دين أرضي، كما حدث ويحدث مع كامل الإيديولوجيات التي خرجت من تضاعيف الفكر العالمي بيساره ويمينه، حتى إن الماركسية الستالينية تحوَّلت ذات يوم بعيد إلى شبه تابو ديني متعصب، وهذا حدث أيضاً وضمناً مع ليبرالية البرلمانات الأوروبية التي منحت المستعمر صك الغفران، وقبلت بالاستعمار والاستحواذ وممارسة العنف المنهجي ضد (الهمجيين) في جنوب العالم، كما جرت تلك التسمية العنصرية المركزية في أدبيات الاستعمار، وعلى درب أكثر وحشية وحِدَّة نقف أمام النموذج الأمريكي المستغرق في وحشية القوة دون أدنى ريب. هذا النموذج لم يستخدم النيتشوية الإيديولوجية لتبرير مركزيته المستمدة من قوانين الطبيعة غير الآدمية، بل يغذي من طرف خفي أعتى الاستيهامات الدينية تعصباً ودموية، فيما يبدي في الظاهر عكس ذلك، ولعل مثال أفغانستان خير شاهد على ذلك، وما يجري اليوم على خط القاعديين والداعشيين شاهد متجدد، يكشف مدى تورط الطغم الإجرامية المحلية في بلدان البروفات السياسية (المقدسة) في تنفيذ الأجندات الخادمة لفوضى الشعوب غير البناءة. هكذا يتوزع الأشاوس المقولة الدينية.. طوراً بظهور فاقع اللون، تنفذه البيادق الصغيرة في رقعة الشطرنج الجهنمية للوحشية العالمية، وحيناً من خلال القطع الكبيرة في رقعة الشطرنج الدولية التي يقود سجال دمارها الكبير أُمراء الحرب العالمية الدائمة. ما جرى ويجري في اليمن تعبير فولكلوري عن الحالة الحاضرة ضمناً وبسخاء في كامل المشهد العربي الممْحون بالدين السياسي. omaraziz105@gmail.com