منذ النشأة الأولى لجماعة الإخوان بدا أنها تناصب القضاء عداوة راسخة لا تتزحزح. وفي أربعينات القرن الماضي، قام التنظيم السري للجماعة بسلسلة اغتيالات، طالت رموز الدولة المصرية، ومن أشهرها عملية اغتيال المستشار أحمد الخازندار. وبالأمس القريب امتدت يد الغدر الآثمة نفسها إلى النائب العام المصري هشام بركات وهو في طريقه من منزله إلى مقر عمله، لتفجر سيارته المصفحة بما يزيد عن نصف طن متفجرات، لتصعد روحه إلى خالقها. في الماضي كانت صدمتهم في تصدي المستشار أحمد الخازندار لنظر قضية اعتداء شباب الإخوان على جنود بريطانيين في الإسكندرية في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، والاتجاه إلى إدانتهم، واعتبار قتل الجنود البريطانيين واليهود جريمة، وراء قرارهم بتصفيته. وطبقاً لاعتراف أحد المنشقين عن التنظيم السري في كتابه النقط فوق الحروف تم تهديد القاضي لإثنائه عن السير في القضية، وعندما لم تفلح محاولاتهم وأصدر القاضي أحكاماً بالأشغال الشاقة المؤبدة على بعض شباب الجماعة، استشاط حسن البنا مؤسس الجماعة غضباً وهو يكاد يصرخ: ربنا يريحنا من الخازندار وأمثاله، والتقط عبد الرحمن السندي قائد التنظيم السري للجماعة الإشارة واعتبرها الضوء الأخضر باستحلال دم الخازندار، وقرر تصفية القاضي. في صباح يوم 22 مارس/آذار 1948 خرج المستشار الخازندار من منزله في شارع رياض بحلوان ليستقل القطار إلى القاهرة، حيث مقر المحكمة، وبعد خطوات عدة من منزله أطلق شخصان عليه تسع رصاصات فسقط قتيلاً، وتمت مطاردتهما من قبل جيران القاضي والقبض عليهما وعثر البوليس بحوزتهما على أوراق تثبت انتماءهما لجماعة الإخوان، وكان عثر في حوزة القاضي على أوراق قضية كان ينظر فيها وتعرف بقضية تفجيرات سينما مترو والمتهم فيها أيضا عدد من المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين، وقامت النيابة باستدعاء مرشد الجماعة حسن البنا لسؤاله حول ما إذا كان يعرف الجانيين إلا أنه أنكر معرفته بهما تماماً، لكن النيابة تمكنت من إثبات أن المتهم الأول حسن عبد الحافظ كان السكرتير الخاص للبنا، واعترف البنا بمعرفته به. وكانت الجماعة على موعد مع افتضاح أمرها فيما عرف بقضية السيارة الجيب، ففي يوم 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1948 أمسكت الشرطة سيارة جيب بها قنابل وأسلحة ومتفجرات ومستندات تخص التنظيم السري عن مخططات التفجير والاغتيالات وأسماء أعضاء التنظيم الحقيقية والحركية وخرائط التفجير التي تمت في الآونة الأخيرة، وشفرات العمليات المستهدفة، والقبض على ثلاثة من رجال الإخوان. واقعة ضبط السيارة، اكتشفها بالمصادفة أحد كونستبلات البوليس أثناء خدمته، لفت نظره أن سيارة من دون أرقام، توقفت لعطل مفاجئ وكان بداخلها مجموعة من الأشخاص، وقام الكونستابل باستدعاء الأمن على عجل، فهرب سائقها وحاول الباقون الهرب، ولكن تم ضبطهم، وعثر بالسيارة على أوراق خاصة بالتنظيم وكمية كبيرة من الأسلحة والمتفجرات، وأظهرت التحقيقات أن السيارة الجيب كانت في طريقها لنقل حمولتها إلى شقة أحد الإخوان بالعباسية. قررت الحكومة أن تتحرك، فأصدر محمود فهمي النقراشي باشا رئيس الوزراء بصفته الحاكم العسكري قراراً بإغلاق صحيفة الإخوان، ثم لم يلبث بعد أن تكشفت خيوط المؤامرة الإخوانية أن أصدر القرار رقم 63 لسنة 1948 بحل جماعة الإخوان المسلمين بكل فروعها في البلاد ومصادرة أموالها وممتلكاتها، ومن ناحيتها قررت الجماعة الانتقام من النقراشي باشا، وفي العاشرة من صباح 28 ديسمبر/كانون الأول 1948، تنكر شاب من الإخوان في زي ضابط وانتظر قدوم النقراشي في بهو وزارة الداخلية، وما أن وصل واقترب من المصعد عاجله بإطلاق الرصاص عليه فسقط مضرجاً في دمائه وسط أفراد حراسته. ظل القاتل رغم كشف انتمائه إلى الإخوان، متحفظاً على الاعتراف على زملائه المتورطين معه في الجريمة لفترة، حتى علم بالجملة المشهورة التي أطلقها حسن البنا يتبرأ فيها من مرتكبي الجريمة بأنهم ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين فانهار واعترف على المحرضين والممولين والمشاركين معه في الجريمة. وفي 13 يناير/كانون الثاني 1949 تطوع أحد المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين في محاولة لإنقاذ الجماعة وتوفير غطاء من الدخان لهروب ما تبقى خارج السجون بحمل حقيبة والذهاب بها إلى محكمة الاستئناف بباب الخلق بوسط القاهرة، وأدعى بأنه مندوب من إحدى مناطق الأرياف جاء بقضايا للعرض على مكتب النائب العام، وترك الحقيبة بداخل المحكمة، وذهب بحجة تناول الإفطار، وبعد مغادرته المكتب، بدأت شكوك الموظفين حول الحقيبة وبسرعة أبعدوا الحقيبة إلى خارج المحكمة فانفجرت بالشارع العام، وتم استدعاء البوليس، وبعد القبض عليه اعترف بأن الغرض من التفجير كان نسف المحكمة، وذلك للتخلص من أوراق ومستندات قضية السيارة الجيب، وكان ذلك بأمر من قيادات التنظيم السري. وكان لجماعة الإخوان المسلمين مع ثورة يوليو 1952 قصة طويلة بدأت بالتحالف ومحاولة سرقة الثورة وانتهت بالعداوة ومحاولة الانقلاب على الثورة ونظامها في أكثر من محاولة، منها محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية، وظلوا في صدام متصل مع نظام عبد الناصر حتى جرت تصفيتهم على أكثر من مرحلة، ومن بعد ظل الإخوان على طول التاريخ في حالة عداء واضحة ضد القضاء المصري.وتواصل صراع الجماعة ضد القضاء، ووصل إلى ذروته بعد وصول محمد مرسي عضو مكتب إرشاد الجماعة إلى سدة الحكم. محاولة الهيمنة على القضاء: مثل القضاء تحدياً كبيراً لمحاولة الإخوان الهيمنة على مفاصل الدولة المصرية، وحاولت الجماعة بتصميم إضعاف السلطة القضائية، ووضعها قيد التحكم، في إطار سعيها لتركيز السلطة في أيديهم، وبدأ الرئيس الإخواني محمد مرسي مبكراً وبعد نحو شهر من توليه الرئاسة بإصدار قراره في 8 يوليو 2012 بعودة مجلس الشعب، الذي كان قد صدر حكم من المحكمة الدستورية بحله، مدشناً بذلك القرار أولى معاركه مع السلطة القضائية ممثلة في المحكمة الدستورية العليا. وفي الوقت نفسه قرر المجلس العسكري عقد اجتماع طارئ لمناقشة قرار رئيس الجمهورية بعودة مجلس الشعب، وأحست رئاسة الجمهورية ومن خلفها قيادة الجماعة بأن الأمر لن يمر مرور الكرام، ودخل نادي القضاة على خط المواجهة مع قرار الرئيس بعودة البرلمان. وبدا أمام الجميع أن الرئاسة ومن ورائها الجماعة تناوران من أجل تمرير قرار عودة مجلس الشعب المنحل بحكم القضاء، واستمراراً لمسلسل التصادم مع القضاء قرر مجلس الشعب إحالة حكم الدستورية العليا على محكمة النقض . وفي هذه الأثناء أصدرت المحكمة الدستورية قراراً يقضي بوقف تنفيذ القرار الجمهوري رقم 11 لسنة 2012، الخاص بعودة مجلس الشعب، واستمرار حكم المحكمة القاضي بحل مجلس الشعب. تحولت المعركة المفتوحة بين الإخوان وبين القضاء إلى نصوص الدستور عبر الرغبة في تطويع القضاة ومنظومة القضاء من خلال النصوص الدستورية ، فانتفض القضاة من جديد لما اعتبروه إخراجاً مشوهاً لفصل السلطة القضائية في مسودة الدستور. وهو الإعلان الذي كان المسمار الأخير في نعش حكم الإخوان، وبعد 30 يونيو/حزيران 2013 وعزل محمد مرسي من الرئاسة وبعد أن فقدت الجماعة الأمل في العودة إلى الحكم، وترسخ لديها أن طموحاتها أصبحت في مهب الريح، قامت عناصر تابعة لها بمحاولة اغتيال المستشار معتز خفاجي، رئيس محكمة جنايات الجيزة. وفي محاولة أخرى ناجحة لاستهداف القضاة، قتل ثلاثة قضاة وسائق، بينما أصيب قاض رابع، في عملية إرهابية شهدتها مدينة العريش، في أول رد فعل لمحاكمة قيادات جماعة الإخوان وتحويل أوراق بعض قياداتهم إلى المفتي، لنصل إلى المحطة الأخيرة في صراع الإخوان وحلفائهم من الاتجاهات الإسلامية المتشددة ضد القضاء المصري لينجحوا في ارتكاب الجريمة الخسيسة التي راح ضحيتها المستشار هشام بركات النائب العام المصري، ليدمغ الحادث مع سوابقه تلك الجماعة بطابع الإرهاب الذي يبدو أنه التصق بهم إلى الأبد. *كاتب مصري متخصص في الشؤون السياسية