ما أكثر ما تقال في الخطب وفي الكتابات عبارة تعجز الكلمات عن التعبير.. أو ما شابه ذلك.. وهي عبارة تبريرية على حساب الكلمة ذاتها، ومع ذلك فإنها تثبت العكس تماماً طالما أن الكلمات لم تعجز حتى عن الانقياد لهذا العاجز! إن ذلك يحدث على سبيل الاعتياد والنمطية، لكنه يحدث أيضا بسبب قعود الموهبة بصاحبها أو فقره المعرفي.. ما يجعل البعض يلقي باللائمة على الكلمة بينما هم الجناة.. يطلبونها للعدالة وهم المذنبون، وهذا يحدث لأن هذا البعض غالباً في عجلة من أمرهم. للتخفف حتى من استحقاقات التعبير عمّا كانوا يريدون قوله.. ومَن يقرأ بعض الخطب المؤثرة أو الإبداعات الإنسانية في الأدب والفنون والعلوم سيعرف كم دفع أولئك المبدعون أثماناً نفسية، وتثقيفية وعمرية لكي ينجزوا ما أنجزوه. لقد بقيت رواية مائة عام من العزلة تقض مضجع جارسيا ماركيز 15 عاماً، لكنه لم يصادر حقها في أن ترزح بثقل وقعها عليه ولم يغتصب حضورها اغتصاباً.. تركها تعصف به إلى أن ضربت له موعداً ذات يوم واختطفته، بل فرضت عليه عزلة في غرفة نائية انقطع فيها عن كل شيء إلا عنها ودفعته دفعاً إلى الورق.. فانكب محبوس الأنفاس يكتبها.. لم يفق إلا وقد أتمها فطارت شهرته دوياً في الآفاق متربعاً على سدة الإبداع الكوني.. فهرولت إليه جائزة نوبل.. لم يسع إليها وإنما سعت إليه ومع ذلك رفضها! الشاعر نزار قباني مثال آخر.. طاردته قصيدة حبلى عشر سنوات.. أكلت من حشاشة قلبه وشربت من ضوء عيونه.. راودها طويلاً لكنها تمنعت عليه إنما حاذر أن يكون غشيماً معها.. إلى أن أمسكت به ذات يوم أيضاً وهو ينزل درجات السلم في منزله الدمشقي.. أجلسته على آخر درجة مغشياً عليه ليكتبها في دقائق، ولتصبح واحدة من عيون الشعر العالمي الحديث! قبلهما حاصرت رواية قنديل أم هاشم يحيى حقي.. كانت الرواية العربية آنذاك لم تُولد بعد.. غير أن قنديل أم هاشم ظل يغمر بنوره الوهاج روح يحيى حقي وعقله.. إلى أن اندلع الوهج حريقاً كان هو وقوده ففر منه ينزف قريحته على الورق.. كتبها دفعة واحدة كالطلقة كما قال! حدث هذا لموسيقيين ورسامين ومفكرين وعلماء لم تكن القدرة الخلاقة عاجزة الكلمات للتعبير عن حل اللغز العلمي ولا خوالج الوجدان، بل رضخت لشحنة الإبداع وصرامة الجهد سواء جاء التعبير قانوناً أو مفردات! لم تكن مسألة روعة الإنجاز مسألة تلقائية ولا كانت ضربة حظ.. وإنما هي على النحو الذي عبّر عنها كدمان كوكس إنني عظيم الإيمان بالحظ حتى إنني كلما تفانيت في عملي، توافر نصيبي منه!. فلا شيء يحدث خبط عشواء دون تأمل وخيال مع عناء التراكم المعرفي وإمعان العقل فيه بصدق وعلاقاته بالواقع، مع ديمومة الشغف بالموضوع. ولو بقي العقل البشري رهين التبرير للعجز والتسليم ولم يستنفر قواه الخارقة، لما استطاع إنسان سومر القديم قبل آلاف السنين اختراع العجلة فصار بعده الترحال على الأرض ميسوراً.. ولما استطاع الإغريقي القديم ديداليوس أن يفلت من سجن الملك مينوس - قصر التيه اللابرنث - بتقليد الطيور محلقاً بجناحيه المصطنعين فاتحاً الطريق إلى عالم الطيران وريادة الفضاء. ومع ذلك.. تبقى المفارقة الصارخة في كل هذا.. أن البشر الذين لم يعجزهم اختراع الكلمة، ما زالوا يحمِّلونها عجزهم عن التعبير لمجرد أنهم يفشلون في مهمة هم أصلا اخترعوا الكلمة من أجلها!