تُعرف الأمور بالمقارنات، فنحن لا نستطيع أن نُحدّد ما إذا كان أي أمر سيئاً أو جيداً إلا إذا قارناه بما هو أجود أو أسوأ منه، والأمر نفسه ينطبق على العلاقات بين البشر. ولعل المقارنات بالذات تفسر جانباً من هذا التبدل في العلاقات الإنسانية، كأن الشخص يقارن بين مَن يعرف من الناس، أو من له علاقات معهم فيجد نفسه مشدوداً، ذهنياً أو عاطفياً أو نفسياً إلى أناس بعينهم، حين يقارن، بمعاييره هو، مَن هم الأقرب إليه وجداناً وسلوكاً. كلما ازدادت خبرات الإنسان واتسع أفقه، أصبحت قدرته على المقارنة بين الأمور والأشخاص أوسع وأعمق. وكلما كان المحيط الذي يتحرك ضمنه المرء أوسع، أصبح حجم المقارنة، هو الآخر، أكبر. من طبيعة دائرة العلاقات المحدودة أن تجعل الأفق محدوداً كذلك، فحجم المشاهدات والخبرات ونماذج البشر فيه تُضيّق كذلك هامش المقارنة، وتحد من تراكم الخبرات والمعارف، وتضعف القدرة على التمحيص. مقطع شعري لأدونيس يقول: لا يُعرف الشرق من داخله، أتريدون أن تعرفوا الشرق/ إذن اعرفوا الغرب. قد نقول ولماذا لا نعرف الشرق من داخله، من قوانين تطوره الخاصة به، من أنساق ثقافته ومنظومات القيم والثقافة الناجمة عن ملابسات تطوره المختلف عن تطور الغرب؟ هذا اعتراض وجيه وجدي، لكن هل كان الشرق، ونحن جزء منه، سيدرك فدح ما آلت إليه الأمور من عجز وقصور وتراجع لو لم يقارن نفسه بالغرب المتقدم، المالك لوسائل العلم والمعرفة والتكنولوجيا، والمتطور في الفنون، والقائم على قواعد الحداثة سياسياً ومعرفياً واقتصادياً؟ بين المقارنة والنسبية صلة قربى. حين نقول إن أمراً من الأمور مناسب لشخص ما، نكون حكماً قد قلنا إن الأمر نفسه قد يكون غير ملائم لشخص آخر، ونكون بذلك قد نبذنا الإطلاق، فما يصلح لحال لا يصلح لحال أخرى. ويحدث أن نقول: بالنسبة لذلك الزمان، كان هذا الأمر، أو ذاك، عظيماً، أو شكَّل خطوة مذهلة إلى الأمام في حينه، ولكن ما كان عظيماً، يومذاك، لم يعد كذلك اليوم، فقد بات أمراً مألوفاً وعادياً، ولا يحمل ما يبعث على الدهشة. والمقارنات، أخيراً، قرينة التعددية: تعددية الخيارات والأفكار والآراء والثقافات ومنظومات القيم، التي تفرض التسامح والعيش المشترك بين أصحابها، لا النبذ والاحتراب، لأنه حين يكون ما هو متاح أمامك خياراً واحداً أو شخصاً واحداً فقط ..فبماذا أو بمن تقارن؟ madanbahrain@gmail.com