في الوقت الذي كان مسرح دبي الأهلي يستعد لاستئناف دورة رمضانية في كرة القدم يقوم بتنظيمها في الهواء الطلق، كانت قاعته الرئيسة تتهيأ لاستقبال ندوة لا يعرف معظم من دُعوا إليها أدنى تفاصيل عن موضوعها، وهو الإبحار في فضاء فنين تراثيين محليين هما الدان والميدان. الندوة التي دعا إليها مركز ديرة الثقافي، احتاجت إلى وقت طويل بعد موعدها المقرر عند التاسعة والنصف من مساء أول من أمس، كي يلتئم عدد من الحضور يسمح ببدئها، وهو ما نوه إليه بالفعل الفنان عمر غباش، بصفته رئيساً لهذا المركز الذي لم يمض على تأسيسه سوى ثلاث سنوات فقط، قبل أن يشرع في إدارتها، مقدماً متحدثيها الرئيسين الدكتور سعيد الحداد، والباحث في مجال التراث المحلي عبدالله الهامور. غباش : مرحلة استثنائية حذّر رئيس مركز ديرة الثقافي، الفنان عمر غباش، من خطورة هالة السرية التي تحيط ببعض الفنون التراثية، مثل فن الدان، مقترحاً على الباحثين والمهتمين بهذا الشأن بعض التغاضي عن هذا الشأن، الذي وصفه بالشائع على نطاق واسع في الموروث، ويكاد يكون سبباً رئيساً في اندثاره. وتابع: نسمع كثيراً أن تقاليد (النوخذة) كذلك كانت تدور في الفلك ذاته، بالنسبة لمن كان يلقب بـ(الراس) أو (الأبو)، وغيرها من المهن والفنون التراثية، التي ضيق عنصر (سرية المعلومات) التي أحيطت بها من إمكانية انتشارها على نطاق أوسع، حتى تعرضت الكثير من تلك التفاصيل بالفعل للضياع. وأضاف غباش: نحن في مرحلة استثنائية، تصارع فيها المجتمعات في المنطقة كلها، وليس خليجياً أو محلياً فقط، من أجل إحداث الموازنة بين الأصالة والمعاصرة، والحفاظ على ملامح الهوية الوطنية التي تتكئ في جانب كبير منها على الموروث، ومن المهم أن يعاد النظر في معيار الحفاظ على (السرية)، لمصلحة أهم وأشمل ترتبط بإنقاذ الموروث نفسه من الضياع. إماراتي - عُماني كشف الدكتور سعيد الحداد، أن هناك اتجاهاً لتتويج الجهود الساعية للاعتراف بهذين الفنين ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، من خلال ملف إماراتي عماني مشترك، لاسيما أن هذين الفنين منتشران بشكل كبير أيضاً في سلطنة عمان. وأضاف أن الفنين سيتم الإعلان عن انضمامهما للعديد من الفنون الشعبية الإماراتية التي سبق اعتمادها ضمن قائمة التراث العالمي قريباً. لا تسريب لـ أسرار الدان قال عبدالله الهامور، الباحث في التراث، إن أحد أهم تقاليد فن الدان التي يكون مجيدها مخلصاً لها هو عدم تسريبه أو بوحه بأسرار هذا الفن، إلا من خلال توريثها، وفي نطاق محدود جداً. وأضاف: على مدار 25 عاماً كنت أتلقى بعض الأسرار بتقتير شديد، وفي العام 2006، طرحت نتاجاً لغزياً من (الدان)، وأعلنت أن من يفسره سيحصل على جائزة نقدية قدرها 10 آلاف درهم، ومضت المدة دون أن يتمكن أحد من تفسيره. وتابع: كان أبي توفاه الله، فذهبت لاستئذان عمي وهو على فراش الموت كي أفسر للجمهور حل اللغز، فنهض رغم معاناته حينها من مرض الموت، ونهاني بشدة عن فعل ذلك، حاثاً إياي على التمسك بسرية شيفرات ورموز هذا الموروث الأصيل، وفق تقاليده العريقة. غباش أشار إلى أن المركز حرص على دعوة العديد من أعضاء الفرق الشعبية المحلية والمهتمين بالشأن التراثي المحلي خصوصاً، لاسيما أن الندوة تتطرق إلى فنين حسب إشارة المختصين، أحدهما اندثر بالفعل، وهو فن الميدان، والآخر يبدو أنه في طريقه إلى المصير ذاته، وهو فن الدان. ودعا غباش الشباب والناشئة إلى الاطلاع على الموروث الفني عموماً، باعتباره أحد مقومات الهوية الوطنية، مضيفاً ليس المقصود هنا في باب التعريف بالعديد من الفنون الشعبية ممارستها الفعلية، بل المعرفة بها، باعتبار أنها كانت تشكل جانباً من الطقوس الفنية التي مارسها الآباء والأجداد، ولايزال بعضها يمارس في مناطق مختلفة من الدولة. وأخذ فن الدان الجانب الأكبر من الندوة، التي تضمنت أيضاً عرض العديد من المواد الفيلمية المصورة تظهر خصوصية الدان والميدان، حيث كشف الدكتور سعيد الحداد، أن هناك اتجاهاً لتتويج الجهود الساعية للاعتراف بهذين الفنين ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، من خلال ملف إماراتي عماني مشترك، لاسيما أن هذين الفنين منتشران بشكل كبير أيضاً في سلطنة عمان. وأضاف الحداد الذي أشار إلى أنه مستشار للمنظمة الدولية في ما يتعلق بالعديد من الفنون التراثية المحلية خصوصاً، أن الفنين سيتم الإعلان عن انضمامهما للعديد من الفنون الشعبية الإماراتية التي سبق اعتمادها ضمن قائمة التراث العالمي قريباً. وقدم الحداد تعريفات عدة لفن الدان، الذي يقدم عادة عبر صفّين ينشدان الشعر برفقة الطبول، مشيراً إلى أن البعض ينعته بـالويلية، مضيفاً: سمي هذا الفن بالدان لأنه أشبه بـالدندنة بكل ما فيها من شجن، وهو تفسير يعضده المصطلح الآخر الويلية، الذي ينسب إلى الويل، نظراً لأن المحتوى الغالب للقصائد التي تنسج في إطار الدان ذات شجن، كأنها ويل واكتواء من شدة الشوق لصاحبها. وتابع: لا يتم وصف القصائد التي يستعان بها في الدان بأنها شعر، بل طِريقة، (بكسر حرف الطاء)، وهي على التفسير الغالب من فعل الطرق، والبعض يرى أنها تشير إلى أنها أسلوب أو طريقة قائمة بذاتها. وأشار الحداد إلى أن هناك جانباً غير تقليدي في الدان يجعل الوصول إلى عمق معناها غير يسير، كما أنها تعتمد على الإيغال في الغموض والرمزية، وأنها كثيراً ما تكون من خلال تحدٍّ بين شخصين. وتطرق الحداد إلى بعض مظاهر اختلاف فن الدان في الإمارات عنه في سلطنة عمان، منها اقتصاره على الرجال، في حين أن في السلطنة أحياناً يكون من خلال صفين أحدهما رجال، والآخر نساء، وأحياناً يكون كلا الصفين نساء. وساق الحداد بعض الأمثلة على فن الدان منها، قول أحدهم: يا منبت الجود أين يطيب مرعاك ليرد عليه الآخر قائلاً: بالله يا خل... وفي حديثه عن فن الميدان، ورداً على تساؤل لعمر غباش، أشار الحداد إلى ارتباط كلمة الميدان، بمحل العمل، مشيراً إلى أن هناك شروطاً معقدة للولوج إلى هذا الفن، أهمها ما يرتبط بمقدرة الشخص على سبر أغوار معنى الأبيات التي يلقيها الطرف الأول، لاسيما أنها تحتوي على الكثير من الرموز وأحياناً الألغاز، والتورية. وساق الحداد أنه من ضمن آداب هذا الفن وتقاليده، هو أن الضيف عليه أن ينتظر حتى يفرغ مؤدو الدان من استعراض مهاراتهم، وينتظر حتى يقوموا بتقريب الدفوف من موقعهم، في إشارة إلى قبولهم أن يمارسوا هم أيضاً هذا الفن التراثي الأصيل. وقدم الباحث في التراث عبدالله الهامور من جانبه شرحاً وافياً للفنين، حيث بدأ بفن الدان مقسماً إياه حسب عدد الأبيات من مسبع وهو أشهرها، ومسدوس ومخموس، وقرأ من المسدوس: مسيت بحيي ولا رد شيماله مدري سمعني ولا واحد وشاله ومنه أيضاً: موصوف في الدار بشر من بني مالك عثره على الوصف يو ستا يو مالك تبريقته تبري الميهود لي هالك لي من مسني بالقدم ع الأرض ما رسم ولي من تبسم تراه صم الحصى رسم عندي يساوي الحسا وبره بني مالك حيث أشار الهامور إلى أن معظم الدان غزل حزين ووله وعشق، ومن أغراضه الترحيب والمديح والهلي والغطاوي والتحسيف، مشيراً إلى أن المقصود بالغطاوي هو عدم التصريح والترميز الأقرب إلى الألغاز، أما التحسيف فهو من الحسرة والألم. وتوقف الهامور بصفة خاصة عند فن الدرسعي في الدان، وهي التعامل مع الحروف الأبجدية في إطار مجموعتين، بمعادلات رمزية، لا يتم تعلمها إلا من خلال توارثها من الآباء والأجداد إلى الأبناء، وتدخل فيها في الغالب أسرار كثيرة يُضن بها.