قصة الشهداء الذين هربوا من الفقر والحرمان في شمال لبنان ليبتلعهم بحر إندونيسيا هي قصة عشرات الآلاف من اللبنانيين في مناطق لم تحظ بإنعام الدولة وأموالها المهدورة. فمن يترك الأرض الذي ولد ونشأ في قلبها وأنشأ عائلة ورزق بذرية، سعياً وراء لقمة عيش في أقصى المعمورة، إلا اليائس وفاقد الأمل في المستقبل القريب والبعيد؟ الشهداء من أبناء التبانة عافوا حياة الشظف والتوترات الأمنية في حي كان في الماضي مركزاً تجارياً يستقطب الجوار وكان يسمى «سوق الذهب» لفرط ما كان يعود على السكان، سكان الحي وسكان طرابلس والمناطق المجاورة. هؤلاء المهاجرون إلى الأبد عانوا الاقتتال مع جيرانهم وبات الأطفال يتدربون على حمل السلاح بدلاً من تلقي العلم والتربية الصالحة. صوّر أصحاب الفتنة للجيل الطالع في التبانة وجبل محسن أن عدوهم قابع في المقابل وعليهم التسلح للدفاع عن أنفسهم، وأهل المنطقتين من نسيج المجتمع الطرابلسي، لأهل جبل محسن في سائر طرابلس أقرباء وأصهار ولأهل سائر طرابلس أقرباء وأصهار في جبل محسن. ثم إن أراضي عكار جبلاً وساحلاً وافرة الخصوبة ووافرة المياه، مياه الشفة ومياه الري، وهي بيئة صالحة للاستثمار. فكيف تترك هذه المساحات الشاسعة من دون استثمار؟ يحتاج الاستثمار إلى سواعد الفلاحين الأشداء ولكن هذه السواعد في حاجة إلى من يدعمها بالتمويل والإرشادات الزراعية فالأرض تعني وفرة الإنتاج، ووفرة الإنتاج تعني إمكانية الاستثمار في إنشاء صناعات زراعية عديدة. إذا كانت الدولة مثقلة بالديون ومثقلة بالفساد الإداري والمالي، فأين دور أهل عكار على اختلاف فئاتهم في ان يلجأوا إلى الإنماء الذاتي بدلاً من الأمن الذاتي طالما ان تصريحات بعض النواب وأهل القرار لإزالة الحرمان كلام في الهواء! لا بد من إنشاء مجلس إنمائي أهلي يضم كل فعاليات المنطقة لوضع خطط التنمية والبحث في التمويل علماً أن هناك متمولين يقبلون على استثمار أراضٍ لا يملكونها وحتى في بلدان غير بلدانهم كما يحدث في السودان والمعروف في رأي منظمة الزراعة الدولية وصناديق التنمية ان السودان يمكن إذا استثمرت أراضيه استغلالاً جيداً ان يكون أهراء للبلاد العربية. ولعل من أهم واجبات المجلس المقترح ان يضع خطة لتقديم قروض صغيرة وميسرة للمزارعين العكاريين لتتوافر لديهم إمكانية زراعة أراضيهم واستغلالها وفق أحدث الأساليب. ولا شك في ان وزارة الزراعة جاهزة لتقديم الإرشادات بالنسبة لأنواع الزراعات وتزويد المزارعين بالأسمدة. ولا بد أيضاً من إنشاء تعاونيات بإشراف وزارة الزراعة وتأمين تسويق المنتجات محلياً وخارجياً مع تأمين الحماية لهذه المنتجات. وليس إعطاء قروض صغيرة وميسرة غريباً في لبنان فهناك في بيروت هيئة شعبية تتولى مساعدة صغار الصناعيين عن طريق إعطائهم قروضاً صغيرة وميسرة منذ سنوات وآخر البيانات يشير إلى ان نحو ألف مؤسسة استفادت من هذه القروض. أما في طرابلس فالبطالة هي أساس البلاء وهي أم المعاصي في كل مجتمع، وهذا يعني ان إيجاد فرص عمل لآلاف الشباب المأخوذين في تيارات سياسية لا تسمن ولا تغني من جوع بات أكثر من ملح. ويقال ان هناك فئة من الشباب المثقف الواعي لمصلحة طرابلس بدأوا فعلاً في تنفيذ مشروع منح قروض ميسرة وتأمين العمل لفئات من الجيل الطالع من الفقراء والعاطلين من العمل لرفع مستوى معيشتهم وإنشاء عائلات على أسس من العلم والتربية الحديثة. والأمل معقود على أثرياء طرابلس لإنجاح مشروع القروض الميسرة علّ المدينة تعود إلى أصالتها وترتدي ثوب العلم والعلماء كما عرفت منذ زمن بعيد. على ان ما تحتاجه طرابلس هو اتخاذ تدابير في مختلف الاتجاهات. ولعل من ابرز ما تتميز به طرابلس عن غيرها من المدن اللبنانية، هو المدينة المملوكية وآثارها وأسواقها القديمة، إلى جانب آثار أخرى. وهذا كنز إذا استغل سياحياً قد يدر على الأهالي القاطنين في المدينة دخلاً كبيراً. والمدينة مهملة من قبل ذوي الشأن وهناك قطع أثرية ولوحات منقوشة تسرق ولا من يسأل. ولماذا لا تنشأ لجنة أهلية للاهتمام ورعاية المدينة؟ تعرضت طرابلس بالإضافة إلى الحرمان خلال العقود الماضية إلى محو معالم معمارية وأثرية مهمة، كما تعرضت إلى تشويه أجمل ما تنطوي عليه من مناظر، بدءاً من إزالة السراي العثمانية الصغيرة العريقة لأجل مشروع اختلفوا على شكله ومضمونه وغايته وباتت الساحة الخالية على أبشع ما يكون التنظيم الحضاري. وبعد تشويه الأشجار التي تتوسط طريق الميناء خلافاً لرأي المهندسين الزراعيين بذريعة تشذيبها، وتشويه الحديقة العامة قرب السراي الكبيرة والساعة العثمانيتين ببناء إنشاءات إسمنتية، هل يعقل ان يسقف نهر أبو علي في قلب المدينة القديمة ولمسافة 300 متر لمنع نور الشمس والهواء عنه في مشروع بؤرة تلوث هائلة؟ أما مصفاة طرابلس فلها حديث آخر، إذ ان إحياءها كفيل بتأمين وظائف للمئات وشغل لعشرات الورش المحلية. الواقع ان الحرمان في عكار وطرابلس مصدره أولاً من الخارج (الدولة) ومصدره من الداخل (المجتمع المدني). فمتى يتحرك الطرفان قبل فوات الأوان؟ كاتب متخصص بالشؤون الاقتصادية - بيروت