يخفي الطابع السياحي الطاغي لمدينة سوسة التونسية وجها آخر لها بدأت ملامحه تتكشف باطراد مع توالي الأنباء عن انغماس متزايد لشباب المدينة في جبهات القتال الخارجية في سوريا والعراق، معززة بما تبثه "التنظيمات الجهادية" في هذين البلدين عبر وسائل إعلامها من صور ومقاطع فيديو لـ"شهداء وأبطال" من أبناء سوسة الهادئة والوادعة. ويفاجأ المرء بأن الأمر هنا ليس محل شك أو تكذيب من سكان المدينة الذين يُجمعونعلى أن شبابهم أصبحوا لاعبا رئيسيا في الصراع الدائر في الشام وبلاد الرافدين، وما من شخص تلتقيه هنا إلا ويُحدثك بقصص خبرها لفرد من عائلته أو جيرته أو سمعها في المقاهي وأماكن التجمعات، وبقدر ما أصبح من الشائع أن تونس باتت عالميا أكبر مصدّر للمقاتلين هناك، ظلت تفاصيل هذه القضية وما وراء الخبر فيها عصية على الملاحظة والفهم. زرنا المدينة لاستكشاف هذه القضية وقابلنا فيها مصادر إعلامية وحقوقية ودعوية متابعة لهذا الملف، لكن من تحدثنا إليهم اشترطوا حجب أسمائهم فيما سننشره "لاعتبارات أمنية"، وطلبنا لقاء مع السلطات الرسمية المحلية (الوالي والمعتمَد الأول) إلا أنها رفضت بحجة أنها "غير مفوضة في الحديث للإعلام". الشيخ غوغل وتفيد مصادرنا في هذا التحقيق بأن بداية الأحداث المسلحة بتونس وقعت بمدينة سليمان (30 كلم جنوب العاصمة) عام 2006 بين مجموعة من "الشباب الإسلامي"، وكانت أغلبية قيادات المجموعة المسلحة من سوسة، وبعد قيام الثورة جعل "الشباب السلفيون" من أنفسهم شيوخا للملتزمين الجدد بعد إطلاق الحريات لعدم وجود من هو أسن وأعلم منهم بسبب سياسة "تجفيف التدين" التي انتهجها نظام زين العابدين بن علي، واتخذوا "الشيخ غوغل" مصدرهم الأول في المعلومات والتأطير الديني. وبما أن الشباب التونسي له خصوصية عند "التيارات الجهادية" لما له في الغالب من تكوين عالي المستوى، أوجدت هذه التيارات شبكة من القيادات الشبابية السلفية المتعاونة معها في المدينة لتستقطب الشباب كمدد لمشروعها "الجهادي" في الخارج. وركزت التياراتلتحقيق ذلك على غير الملتزمين أو من هم في بداية التزامهم الديني، مستخدمة "خطابا دينيا يمزج بين الوعظ وشرح مآسي واقع المسلمين"، وبعد "هداية" الشاب المستهدف يوظف سريعا في خدمة "المشروع الجهادي" في سوريا والعراق، كأقرب طريقة لـ"تحقيق التوبة النصوح والعبور مباشرة إلى الجنة". " تواترت الروايات على أن أحياء المدينة تشهد بين الفينة والأخرى "غياب مجموعة شبابية بين الستة والسبعة من مسجد الحي الواحد أو من مجموعة أحياء"، وبعد أيام يُعلمون ذويهم بأنهم موجودون في سوريا أو العراق " معاقل الاستقطاب وتأتي في طليعة "معاقل الاستقطاب" داخل مدينة سوسة، مناطق مثل القلعة الكبرى وحي الرياض وحي الشباب وحمام سوسة، ثم المناطق المجاورة للمدينة، مثل هركلة وسيدي عبد الحميد ومساكن والنفيضة، وقد جرت اعتقالات لمئات الشباب على خلفية اشتباكات عدة بينهم وبين الأمن، مثل حادثة اقتحام مركز أمن سوسة الجنوبية في العام 2012 التي قتل فيها منهم اثنان، وعملية هركلة و"التفجير الانتحاري" العام الماضي، إلا أن التركيز ظل منصبا على العمل المسلح في الخارج وليس في الداخل. وتواترت الروايات على أن أحياء المدينة تشهد بين الفينة والأخرى "غياب مجموعة شبابية بين الستة والسبعة من مسجد الحي الواحد أو من مجموعة أحياء"، وبعد أيام يُعلمون ذويهم أنهم موجودون في سوريا أو العراق، وفي الأكثر يكون السفر من تونس مباشرة إلى تركيا حيث لا يستلزم دخولها الحصول على تأشيرة للتونسيين، وقد يخرجون باتجاه ليبيا حيث يتلقون تدريبات عسكرية ثم يعودون ليكملوا طريقهم إلى وجهتهم النهائية عبر تركيا وأحيانا يصلونها انطلاقا من ليبيا. وتشير أغلبية الروايات المتداولة إلى أن هؤلاء الشباب يتولون بأنفسهم تمويل سفرهم إما بجهدهم الشخصي عملا أو استدانة، أو باستخدام أموال العائلة دون أن تعرف سبب الصرف أو جهته لأنهم يتكتمون على خططهم بهذا الشأن، ولا يعني ذلك نفي حالات تتولى فيها "جهة ما" مصاريف السفر وترتيباته حتى بلوغ محطة الوصول النهائية. ويغلب على المنخرطين في "المشروع الجهادي" بسوسة أن أعمارهم تتراوح بين20 و30 سنة، كما يكثر فيهم أبناء الأحياء الشعبية ذات الطبيعة المتدنية في التعلم والثروة والتدين، وقد يُعرّف بعضهم بأنهم من "أصحاب السوابق الإجرامية"، رغم أنهم يستقطبون أحيانا شبابا أثريا ومتعلمين، كما أن هناك من سافروا وعادوا دون أن يخضعوا للمحاكمة أو المتابعة الأمنية رغم توقيفهم من طرف فرقة مكافحة الإرهاب يومين أو ثلاثة، وهو ما أثار استفهامات كثيرة. قصص كثيرة تروى في سوسة وتنتشر عن شباب ذهبوا إلى جبهات القتال في سوريا والعراق بدرجة أقل، بعضهم قتل هنالك، وآخرون عادوا إلى أرض الوطن، لكن الغالبية الساحقة خرجت ولم تعد، وتتواطأ التقديرات بأنها تصل للآلاف من جميع نواحي تونس، وأعدادهم من سوسة بالمئات إلى حدود الألف، ومن حاول منهم السفر ولم يستطع فهو إما معتقل أو مراقب أمنيا. الهادي عبودة:نجلي قطع دراسته في الثانوية لضعف معدلاته وكان متدينا بشكل عادي(الجزيرة) مقاتل بالنصرة يقول الهادي عبودة، والد عمر(27 عاما) أحد الشباب الذين التحقوا بجبهة النصرة في سوريا وقتل في إحدى المعارك ضد جيش النظام، إن ولده قطع دراسته في الثانوية لضعف معدلاته، وكان متدينا بشكل عادي، ولم يكن ينتمي لأي جماعة، ثم باع فجأة "مزرعة منحته إياها وسافر بقسطه من ثمنها (نحو4000 دولار) إلى سوريا العام الماضي، دون أن يخبر أحدا". وأوضح أنهم علموا بخبر سفر ابنهم من صديق له، ومن هناك اتصل ابنه ليعلمه بخروجه للجهاد في سبيل الله ونصرة الذين "يبيدهم بشار الأسد، وأنه لن يرجع حتى يحقق النصر أو الشهادة"، وأكد أنه لم يعرف الجهة التي أقنعت ابنه بالسفر إلى سوريا، وأنه كان دائم الاتصال به. وأضاف عبودة أنه لا يعلم مصادر تجنيد وتمويل مجموعات شباب سوسة التي تسافر للقتال في الخارج، وكل ما يعرفه هو أن ابنه عمر "ذهب بماله الخاص ولم يطلب منه أي نقود، وخرج للجهاد في سبيل الله وليس للمال، بل إنه رفض مقترح أمه بالزواج هناك قائلا إنه لم يذهب لطلب النساء، فاستشهد وهو أعزب"، لافتا إلى أن ابنه ربما اقتنع بالذهاب هناك بما يقرؤه ويشاهده عبر الإنترنت. بدوره يروي الخبير القانوني نور الدين بلعيد قصة شقيقه أنيس (29 عاما) الذي لا يزال يقاتل في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية بالرقة السورية منذ يونيو/حزيران 2014، ويقول إنه سافر بجواز قانوني بالطائرة من تونس إلى تركيا، وقد مول رحلته بماله الخاص لأنه كان يعمل سائق أجرة، "ولم يخرج معه أحد من منطقتنا القلعة الكبرى، لكن علمنا أنه سافرت معه مجموعة من ولايات تونسية أخرى، ثم اتصل علينا من الحدود التركية وأخبرنا بأنه في طريقه لسوريا". بلعيد يرجح أن تكون المشاكل العائليةلعبت دورا في سفر أخيه لسوريا(الجزيرة) النصر أو الشهادة وأكد أن علاقات شقيقه كانت عادية جدا، وأصدقاؤه أغلبيتهم من غير المتدينين، وله صلات مع آخرين من "الإسلاميين المعتدلين، ولم نعرف له أي صلة بتنظيم متشدد، كما أنه ليست له معارف من ذوي التعليم الديني، لأن تعليمه ابتدائي ولذا ليست دوافعه عقائدية، حسب رأيي، وربما لعبت مشاكل عائلية جرت له مع زوجة أبيه دورا في سفره، وقد تكون عوامل مادية مغرية وراء سفره من خلال اتصالات مع جهة ما أقنعته بالخروج". وأضاف بلعيد أنه لاحظ على شقيقه أنيس "تغيير مسجده لشهرين قبل سفره، فانتقل إلى مسجد آخر خارج الحي رواده من المتشددين، وقد نصحته بألا يفعل، لكنه واصل التردد عليه حتى سافر"،ولفت إلى أنه "لم يتلق أي تدريب عسكري قبل سفره، لأنه لم يغب يوما واحدا عن البيت، والتأثير عليه وقع عبر الإنترنت، لأنه أصبح قبيل سفره ملازما كثيرا للكمبيوتر". وأشار إلى أنه أرسل لهم صورا يوم عيد الأضحى الماضي إحداها لمجموعة من جنسيات عربية وأجنبية يمزقون فيها جوازات سفرهم، "لإقناعنا بأنه بخير حتى لا نطلب منه الرجوع، بل إنه دائما يقول لي: مكاني أفضل من مكانكم، وإنه ليس نادما ولن يعود حتى يحقق هدفه، وهو الإطاحة بنظام بشار الأسد أو الشهادة ليشفع لأهله".