ها أنت الآن زهدت بما كنت تحلم به؛ بل توشك أن تعرض عنه كله بعد أن تذوقته وخبرت حلوه ومره! تتذكر حلمك القديم الذي لم يبرح ذاكرتك إلى اليوم حين كنت يافعا لم تناهز الرابعة عشرة من عمرك وأنت تتصفح الجرائد والمجلات في مكتبة قريتك الهادئة الوادعة الجميلة حين كانت قرية صغيرة لا يشغلها إلا نفسها ولا تعرف أو تهتم إلا بما يدور فيها أو حولها ؛ كنت أنت وثلة من صحبك الشداة تمدون أعناقكم خارج أسوار القرية المحاطة بالجبال والمحفوفة بالرمال، كانت تلك المكتبة المتواضعة الساكنة في بيت طيني على قارعة الشارع الرئيسي المترب خميلة وارفة الظلال ، غنية بما لذ وطاب من أنواع المعارف والعلوم والآداب، طيبة المعشر بمن يرتادها من شداة المعرفة وعاشقي القراءة من الطلاب؛ فكنا نبدأ بالصحف والمجلات في الغرفة الأولى؛ حتى إذا فككنا أربطتها المختومة من وزارة المعارف السخية الكريمة التي لم تكن تبخل على أبناء البلاد بطولها وعرضها من هذا الزاد المنوع من صحف المملكة ومجلاتها ومن أقطار الوطن العربي كافة؛ انتقلنا إلى الغرفة الرئيسة الكبرى التي تمتلئ بأمهات الكتب في علوم الدين والفكر واللغة والأدب والتاريخ وغيره التليدة والجديدة ؛ فتقع يد أي منا كل حسب اهتمامه على كتابه الذي لم يكمله بالأمس، ثم يأخذه إلى صالة المكتبة الرئيسة الواسعة، فيقتعد كرسيا حديديا يعود بظهره في شبه انحناء إلى الجدار؛ فيكون الكرسي في وضع وسط بين الجلوس والاستناد على الجدار؛ ويصطف استنادا في صبيحة تلك الأيام شبه المعتدلة من عطلة الصيف الطويلة خمسة أو ستة شبان ينشغلون بما بين يديهم من الكتب المنوعة التي لم تنشأ بعد حساسية مفرطة أقرب إلى الغلو والشك والتوجس من كل كتاب أو مجلة؛ كما هو الشأن اليوم. تتذكر كيف تقع عيناك وأنت تفرش الجريدة بصفحتيها على الطاولة الكبيرة في الغرفة الأولى للصحف وتأخذك صورة شخصية أحد كتاب المقالات وقد علت المقال وأخذت موضعا ملفتا بجانب العنوان الذي خط بالبنط الكبير وقد سبقت اسم الكاتب د. أي أنه يلقب بالدكتور، ووضع على غترته البيضاء الناصعة عقالا أسود جميلا ؛ فيحتل خيالك خاطر لم تكن تصدقه ولم تأخذه على محمل الجد: هل يمكن يوما أن أكتب وتنشر صورتي على هذا النحو باللقب نفسه وبالعقال نفسه وبالغترة البيضاء نفسها كما هي صورة هذا الكاتب الكبير الخطير ذي المقام العالي؟! ولم يكن في بيت والدك لا راديو ولا تلفزيون؛ فكنت تسترق السمع من خلف الأبواب الخشبية إلى قراءات المقرئين في الصباح الباكر في طريقك إلى المدرسة البعيدة التي كنت تذهب إليها مشيا على الأقدام في زمهرير الشتاء وحمارة القيظ اللاهب؛ وتعرفت من خلال كثرة الإنصات واستراق السمع أن هذا المقرئ ذا الصوت الحلو الرنان اسمه عبد الباسط محمد عبد الصمد ، وأن الآخر ذا الصوت المتحدر في القراءة ذات الرتم الواحد اسمه عبد الله خياط، وأن ذلك الصوت الشجي الحزين المنغم العميق اسم صاحبه محمد صديق المنشاوي؛ الله ما أجمل تلك السبحات الروحية العميقة التي كانت تحلق بك بعيدا في عالم صاف نقي دقائق لا أنت في الأرض ولا أنت في السماء، دقائق تود لو أنها ساعات طويلة ممتدة، وتتمنى على الله أن يأتي يوم وفي بيت والدك راديو لتستمع منه إلى ما تشاء؛ قرآنا وبرامج وأخبارا تأتي بالعالم إليك، ولم يكن في يدور في خلدك أنك يوما ما ستكون أحد مقدمي تلك التلاوات وأحد قارئي مثل تلك الأخبار وأحد مقدمي مثل تلك البرامج! أما التلفزيون؛ فكان حلما من الأحلام أن يجلس في بيت أحد أبناء عمومته من طلاب الجامعة في الرياض حين زاره مع أخيه الأكبر ليستمتع بالمصارعة الحرة، ثم يشاهد الأخبار ثم المسلسل اليومي، ولم يكن أبدا؛ بل ربما كان من المستحيل أن يحلم يوما بمكان ذلك الشاب الذي كان يقرأ نشرة الأخبار! يتبع