بقيت الأندلس في القرن الخامس الهجري تئن تحت وطأة الفرقة والانهزام، حتى كانت موقعة الزلاقة معركة فاصلة أعادت للأندلس هيبتها وردت المكائد الصليبية في نحرها، وكانت هذه المعركة في التاسع من شهر رمضان سنة 479، وبعض المراجع التاريخية ترجح أنها كانت في الثاني عشر من شهر رجب. ينظر: (جميل المصري: الزلاقة من معارك الإسلام الحاسمة، وفيات الأعيان: 5/29، وغيرها). ما قبل الزلاقة شهد القرن الخامس الهجري سوء أحوال الأندلس، التي كانت مفككة يحكمها ملوك الطوائف ويتآمر بعضهم على بعض، ولو كان ذلك بالتعاون مع ملك قشتالة ألفونس السادس، الذي استغل تلك الفرقة في الإيقاع بين حكام الأندلس، لدرجة أنه صار يأخذ منهم الضريبة والإتاوات حتى يستنفد طاقتهم، مقابل حمايته لهم من إخوتهم المسلمين. سقوط طليطلة هي من أهم المدن الأندلسية، تتوسط شبه الجزيرة تقريباً، وبالتالي أصبحت مطمعاً لآمال ألفونسو السادس، وخاصة أن حال المدينة كانت سيئة جدّاً على عهد ملوكها من الطوائف، وهم أسرة ذي النون. دبر ألفونسو خطته لغزو المدينة، وأرهب ملوك الطوائف الآخرين وتوعدهم إن قاموا بنجدتها، وحاصرها حتى اضطرها إلى التسليم. وسقطت طليطلة بأيدي ألفونسو السادس، ونقل إليها عاصمة ملكه، واستتبع سقوطها استيلاءُ الإسبان على سائر أراضي مملكة طليطلة. أطمع ذلك ألفونسو بباقي ممالك الطوائف، وانتشت أحلامه بالقضاء عليها الواحدة بعد الأخرى، وتجبر عليهم، وعلا وطغى، نقض عهوده التي كان قد قطعها لأهل طليطلة، وحول مسجد طليطلة إلى كنيسة بقوة السلاح. تمادٍ وأطماع بدأ ألفونسو في تنفيذ خططه بالإيغال في إذلال الطوائف، وخاصة المعتمد بن عباد أكبر ملوك الطوائف وأشدهم بأساً.. حيث أراد أن يمعن في إذلاله كأقوى أمراء الطوائف، فأرسل إليه رسالة يطلب فيها السماح لزوجته بالوضع في جامع قرطبة وفق تعليمات القسيسين، وقد أثارت هذه الرسالة ابن عباد حتى قيل: إنه قتل رسل الملك وصلبهم على جدران قرطبة؛ مما أثار غضب ألفونسو السادس وصمم على الانتقام، وبدأت جيوشه في انتساف الأرض في بسائط إشبيلية وفي الأراضي الإسلامية. الاستنجاد بالمرابطين تعالت الأصوات في الأندلس تطالب بالارتفاع فوق الخلافات الشخصية، وتناسي المصالح الذاتية، والاستنجاد بالمرابطين الذين نمت قوتهم في ذلك الوقت على الضفة الأخرى من البحر المتوسط. ولقيت الدعوة صدى عند أمراء الأندلس بسبب ازدياد عنف ألفونسو، ورغم كل التحذيرات التي وجهت إلى المعتمد بن عباد، وتخويفه من طمع المرابطين في بلاد الأندلس، إلا أن النخوة الإسلامية استيقظت في نفسه، فأصَرَّ على الاستنجاد بالمرابطين، وقال قولته الشهيرة: لأَنْ أكون راعي جمال في صحراء إفريقية خير من أن أكون راعي خنازير في بيداء قشتالة. عبور المرابطين عبرت جيوش المرابطين من المغرب إلى الأندلس بقيادة يوسف بن تاشفين ثم تحركت العساكر إلى إشبيلية، واستقر أياماً في إشبيلية للراحة، ثم اتجه إلى بطليوس في الوقت الذي توافدت فيه ملوك الطوائف بقواتهم وجيوشهم. معركة الزلاقة زحف ألفونسو بجيشه على المسلمين، ودارت معركة حامية، ازداد وطيسُها، وتحمَّل جنودُ الأندلس من المسلمين الصدمة الأولى، وأظهر ابنُ عباد بطولة رائعة، وجرح في المعركة، واختل جيش المسلمين، واهتزّت صفوفه، وكادت تحيق به الهزيمة، وعندئذ دفع ابن تاشفين بجيوشه إلى أتون المعركة، ثم حمل بنفسه بالقوة الاحتياطية إلى المعسكر القشتالي، فهاجمه بشدة، ثم اتجه صوبَ مؤخرته فأثخن فيه وأشعل النار. اضطر الملك القشتالي - وقد أصيب في المعركة- إلى الانسحاب حفاظاً على حياته وحياة من بقي من جنده، وطُورِدَ الفارُّون في كل مكان حتى دخل الظلام، فأمر ابنُ تاشفين بالكفِّ. استمرت المعركة يوماً واحداً حطم اللهُ فيه شوكة العدو ونصرَ المسلمين. سياسة فرق تسد استفاقة مؤقتة كانت كفيلة بهدم عروش جبابرة الأرض تحت أقدام المسلمين، إنها الوحدة، وحدة القلوب والصفوف، فما دخل الأعداء وهدموا عروش حكام الأندلس إلا بتفرقتهم وزرع بذور الشقاق بينهم، وهذه هي سياسة فرق تسد التي ذهل المسلمون عن تعلم دروسها على مر السنين، فتراهم لا يخرجون من حفرة إلا ويقعون في أخرى، ولا يشفون من لسعة إلا ويلدغون من الجحر نفسه الذي لدغوا منه، مع أن التاريخ والواقع أكبر شاهد وخير دليل.