صديقي الذي كان مهندساً، وخرج من سورية إلى تركيا بعد أن أصبح وضعه الأمني شديد الحساسية، عمل كل ما يمكن كي لا يتسول، وبعد أشهر من اضطراره للاعتكاف في المنزل «الذي دفع صديقه إيجاره» تحول إلى مهرب، ويبدو أنه كان مهرباً فاشلاً، وعلى الأرجح أنه لن يقرأ يوماً قصته هذه، ولن يحكي لأولاده الذين لم يتعرف على أمهم قبل أن يأكله البحر، صديقي «أحمد. ك» كان مهندساً وأصبح ذكرى. صديقي «أحمد.ك» الديري «من أبناء دير الزور»، أصبح واحداً من أهم نشطاء دير الزور السلميين، عمل في الإغاثة فترة طويلة، وتخفى لأيام وأيام، وعندما جاء إلى دمشق بعد أشهر قليلة من بدء الثورة، همس في أذني: «كدت أنسى صوره، دير الزور نظيفة، لا يوجد ولا حتى إشارة له»، حسدته وقلت له «بكير كتير عالشام... لسا الناس نايمين هون». أحمد لم يمت على يد النظام، وكاد أن يعتقل أكثر من مرة، وفي كل مرة يضحك ويقول «أنا متل القط بسبع أرواح»، وأنا أبكي ولا أعرف سبب ضحكه الذي كنت أراه في وقته أنه «مستفز وسخيف»، وافتعل شجاراً معه عن ضرورة أن لا يسخر من الموت. دخل «داعش» دير الزور، وتحولت الحياة إلى جحيم من نوع جديد، وصديقي الذي كان مهندساً وكان ينوي أن يتزوج، تحول إلى مهرب فاشل، اعتُقل من قبل «داعش»، ولم يستطع أن يعرف سبب اعتقاله، رغم الضرب والإهانة والتعذيب على يد عناصره. لا أحد يعرف عنه شيئاً اليوم. عمل مع مهرب، وأجلسني معه بصفتي صحفية، والمهرب «الشاطر» الذي عرض علي أن يهربني بطريقة مضمونة عرض عليه العمل لمصلحته. يعمل بالتهريب قبل أن يصبح السوريون سوقاً دسماً لهذه المهنة. ووفق تعبيره «مصائب قوم عند قوم فوائد»، والمهرب «الأشقر ذو العيون الخضر والكردي السوري»، يعمل فقط بالتهريب براً بعد أن اكتشف أنه أكثر أمناً. بدا أحمد صديقي الذي كان مهندساً مقتنعاً بكلام المهرب عندما قال أن عمليات النصب التي تمت وتتم يومياً على طالبي الهروب والوصول لأوروبا بسبب عدم انتباه الأخيرين، وأن الكلمة السحرية للهروب والوصول إلى أوروبا هي أن يكون المهرب محترفاً «وكان يقصد نفسه طبعاً»، ورغم أن الكلمات الانكليزية التي حافظ على استخدامها في جمله كانت مثيرة للضحك أكثر منها مقنعة بإتقانه الإنكليزية. أحمد عقد اتفاقاً مع المهرب، سيؤمن له طريقة للوصول إلى أوروبا، وبما أن أحمد لا يملك حتى ثمن طعامه فإنه سيعمل لمصلحته فترة من الزمن حتى يسدد ما عليه ومن ثم يصل إلى أوروبا، هذه كانت الخطة ولكن لم يتم تنفيذها. المهرب الأشقر يعمل على التهريب براً فقط، ذلك أنه أسرع وأرخص، وهناك فريقان يعملان معه في هذه الحالة، الأول السائق من الطرف التركي حيث يقوم بإيصال الناس إلى نقطة قريبة من الحدود مع اليونان وتستغرق الرحلة حوالى 3 ساعات، ومن ثم يبقى «الريبر» أي الدليل معهم ليدلهم على الطريق إلى النهر الفاصل بين اليونان وتركيا ويمشي معهم حوالى الساعتين، وبعد اجتياز النهر والوصول إلى اليونان، يرافقهم الدليل ما لا يقل عن 3 ساعات مشياً في الأراضي اليونانية إلى حين الوصول إلى النقطة التي يجب أن يأتي سائق ليقلهم، وأما متى يأتي السائق فهو أمر يحدده هو فقط وذلك لأن من مهماته اختيار الوقت المناسب وربما يطول الانتظار ساعات وأياماً. لم يخطر ببالي وأنا أستمع إلى المهرب أن صديقي الذي كان مهندساً سيكون واحداً من السائقين في الطرف اليوناني، وأما لماذا «سائق» فلأنها المهمة الأصعب والأكثر خطورة والأعلى أجراً، إذ إن الكثير من السائقين ماتوا قبل أن يتم إيصال الناس إلى أثينا، إما لملاحقتهم من قبل الشرطة اليونانية وإصرارهم على عدم التوقف «خوفاً من السجن» وبالتالي التعرض لحوادث مميتة، أو لإصابتهم بطلق ناري من قبل الشرطة. وأحمد صديقي الذي كان مهندساً بالأمس، ربما يكون قابعاً في أحد سجون اليونان، أو أن قلبه احتضن رصاصة بصمت. والدة أحمد اليوم لا تزال في دير الزور، في مناطق سيطرة تنظيم «داعش»، لا تحسد أقاربها الذين في مناطق سيطرة النظام، فكلاهما في بؤس واحد، وأم أحمد أو «خالتي» كما أناديها لم يقتلها 150 يوماً من حصار التنظيم والنظام، ولم تمت من شرب المياه الملوثة الوحيدة المتبقية في دير الزور منذ 90 يوماً، ولا تتذمر من غياب الكهرباء، تجلس فقط واضعة النقاب الداعشي «تنفيذاً للأوامر»، تنتظر مكالمة لا تأتي من أحمد، وتسمع عن المجازر اليومية في مدينتها.