تظهر نتائج الانتخابات التشريعية، أن حزب «الشعوب الديموقراطي» الكردي لعب دور بيضة القبان، وحقّق نجاحاً مبهراً: لم يسبق أن دعم الناخب التركي حزباً كردياً، على رغم أن غالبية الأصوات التي حصل عليها جاءت من الأكراد. لكن ثمة نسبة يعتدّ بها من غير الأكراد صوتت له. وفي الماضي القريب، درج «حزب العدالة والتنمية» على حصد ثلثي أصوات الناخبين الأكراد. أما اليوم، فهو خسر أصوات الأكراد المتديّنين، كما أن كثراً من ناخبي الأحزاب الأخرى اختاروا التصويت لهذا الحزب لإطاحة حكومة الحزب الحاكم، وليس إيماناً بسياسات حزب «الشعوب الديموقراطي» الكردي. وأبرز ما في هذه الانتخابات، هو ميل الناخبين الى إطاحة الحكومة. وهو ميل حمل بعضهم على الاقتراع لحزب لا يعرفونه أو هم غير مقتنعين ببرنامجه. ولا شك في أن المدة الطويلة التي أمضاها «العدالة والتنمية» في الحكم، ساهمت في تراجع أصواته. لكن على الحزب هذا، أن يفكر في الأسباب الرئيسية التي كانت وراء تخلّي ربع ناخبيه عنه. وفي الإمكان اختزال هذه الأسباب في عشر نقاط: 1) أرسى «العدالة والتنمية» سياسته أخيراً، على ركن الاستقطاب وزيادة التوتّر في الشارع حول عدد من القضايا. والاستقطاب حمل كثراً ممن يتابعون علاقات تركيا مع سورية والعراق، على التساؤل حول نجاعة هذه السياسة ومستقبلها. 2) الناخب لم يرق له أن يتصرف الرئيس رجب طيب أردوغان، على أنه زعيم ثان للحزب، فيتدخل في الانتخابات ويخاطب الجماهير، وينتقد المعارضة ويهمّش دور زعيم الحزب. وجليّ أن الناخب أعرب عن رأيه في هذه المسألة، ورفض مشروع أردوغان الرئاسي. 3) لم يعد «حزب العدالة والتنمية» الأمل الى المواطن في تحسّن الوضع الاقتصادي، وتراجعت إصلاحاته. ولم يقدم على ما يحرّك عجلة الاقتصاد. وسعى الى زيادة ثروة المحيطين به، وبرزت زمرة تابعة له تستأثر بالمشاريع والأرباح. 4) اتّسمت قيادات الحزب بالتكبّر والخيلاء. وهذا لا ينسجم مع هويته الإسلامية، ويُخجل ناخبيه المتديّنين. وبدأ «العدالة والتنمية» ينظر الى الشعب من علياء، وصار يتعامل مع قضاياهم بازدراء ينفخ في حنق الشارع. 5) تقرّبت من الحزب شخصيات انتهازية لا وزن لها من مستشارين وإعلاميين متملّقين، وتوسلوا بنفوذ الحزب الى ترويع المعارضين وتهديدهم، وألحقوا ضرراً بأعمال الناس، وتلاعبوا بالقضاء ضدهم من غير رادع أو مساءلة. فأمعنوا في غيّهم، ووجهوا قبل الانتخابات رسائل تهديد: «سنعود أقوى من قبل، وسنفرض سلطتنا عليكم في شكل أكبر». 6) لم يبدِ الحزب استعداده للتراجع عن سياسته الخارجية المليئة بالأخطاء، وهو أمر أزعج المحافظين والمتديّنين من ناخبي الحزب. 7) على رغم أن أخبار الفساد لم تؤثر في نتائج الانتخابات المحلية والبلدية وانتخابات الرئاسة، برز أثرها بعد انقضاء فرصة إجراء مراجعات أو محاسبات. وسُلط الضوء على تجاوزات جديدة، وأيقن الناخب أن «الحزب» لا ينوي محاسبة المسؤولين عنها. 8) الناخب الكردي المتديّن الذي وجد ضالته في «حزب العدالة والتنمية» ودعم توجّهه الى حل القضية الكردية، أساءه عدم محاسبة الحكومة المسؤولين عن مقتل 34 كردياً في محافظة أولودره في قصف للجيش التركي. وتراجع الحكومة في الأشهر الأخيرة عن مسيرة الحل الكردي، أفقد هذا الناخب الثقة في الحكومة. 9) راعَ الناخب إجراء الحملات الانتخابية من دون مراعاة معايير العدالة بين الأحزاب: الحزب الحاكم استخدم صلاحيات الحكومة ونفوذه المالي والإعلامي في وجه أحزاب المعارضة. وروّجت البلديات والإعلام الحكومي للحكومة. فتعاطف الناخب مع أحزاب المعارضة التي تدخل سباقاً غير عادل في وجه الحكومة. 10) صور البذخ والإسراف في «العدالة والتنمية»، أزعجت كثراً من أنصاره: قصر الرئيس الباذخ، سيارة رئيس الشؤون الدينية الفارهة، وإسراف وزراء الحزب الحاكم في الإنفاق في وقت يعاني 17 مليون تركي من الفقر والعجز والديون. وتمسّكت الحكومة ببقاء العتبة البرلمانية على حالها (10 في المئة)، ليحافظ «العدالة والتنمية» على هيمنته على البرلمان. وهذه العتبة تساهم في حرمان الأحزاب الصغيرة من التمثيل، فيرث أصواتها الحزب الحاكم في البرلمان بسبب عدم بلوغها تلك العتبة. ولو وافقت الحكومة على اقتراح المعارضة قبل الانتخابات بخفض هذه العتبة الى 5 في المئة، لربما عاد حزب «العدالة والتنمية» الى الحكم منفرداً. لكنه وقع في الحفرة التي حفرها لغيره. وعلى رغم هذا التململ، حصد «العدالة والتنمية» أكبر نسبة من الأصوات. ولكن الناخب وجّه إليه بطاقة صفراء في الانتخابات. لذا، عليه أن يراجع سياساته وإلا يواجه خطر الحصول على بطاقة حمراء (الطرد) في الانتخابات المقبلة. وعلى خلاف توقعات بعض قياداته، لن يندم الناخب ولن يعود الى التصويت له. ونتمنى أن يعيد الحزب التفكير في سياساته، وإلا فإن تركيا قد تدخل في نفق مظلم ومرحلة من الاضطراب.