المتابع لمسار العلاقات السعودية الروسية يجد أنها انتقلت من وضع إلى وضع في فترة قصيرة جدا لا تتجاوز الثلاثة أشهر! منذ ثلاثة أشهر فقط كانت العلاقات السعودية الروسية تشهد توترا حول قضايا إقليمية ودولية، أمنية وسياسية واقتصادية، تتراوح بين المواجهات الدبلوماسية على أروقة المحافل الدولية.. والخلاف الشديد حول قضايا ثنائية وإقليمية، فيما يشبه الحرب الباردة. فجأة نجد سلوك الدولتين تجاه بعضهما البعض يتحول بإيجابية، لتتبادل رسائل الود والرغبة في استعادة حالة التعاون وأواصر الصداقة بينهما من جديد.. وتتلاقى الوفود في المحافل الدولية حول قضايا مشتركة، وتتبادل الزيارات بين العاصمتين على أعلى المستويات. وكان آخر تلك الصور لاستعادة العلاقات الطبيعية بين الدولتين الصديقتين، الزيارة التي قام بها سمو ولي ولي العهد وزير الدفاع إلى موسكو الأسبوع الماضي. كما يقال بين الدول ليس هناك عداوة دائمة أو صداقة دائمة، بل مصالح ثابتة أحيانا يبعد ما بينها ما يشبه العداء، وأحيانا أخرى تتلاقى من أجل تعظيم عائد كل منهما من تلمس إمكانات مجالات التعاون المشتركة بعيدا عن بيئة الصراع، في نظام دولي شبه فوضوي لا تحكمه، في كثير من الأوقات، سوى علاقات القوة وتوازناتها. من هنا، وحتى لا يختلط لدى البعض استدعاء أجواء الحرب الباردة، فإن علاقات الدول، في الوقت الحاضر، لا تحكمها الآيدلوجية، بقدر ما تحكمها واقعية تلمس المصالح ومحاولة خدمتها بأكبر عائد ممكن وأقل تكلفة ممكنة. في واقع الأمر بدأ منحى العلاقات بين البلدين في مستواه الهابط، منذ عام تقريبا، حول الموقف من أزمة أسعار النفط، العام الماضي. فكان موقف المملكة، النابع من مصلحتها الوطنية كأكبر مصدر للنفط، وأكبر دولة من حيث احتياطياته وكادت أن تفقد ميزتها التنافسية الثالثة في صناعة الطاقة العالمية كأكبر منتج للنفط، أن الأهم: هو المحافظة على حصة الدول المنتجة للنفط في سوق النفط العالمية، بينما كانت روسيا مع الدفاع عن الأسعار في مواجهة الركود التي بدأت سوق النفط تواجهه، عن طريق التحكم في الإنتاج بخفضه، حفاظا على السعر. وانتصرت وجهة نظر المملكة، الأمر الذي قاد إلى خفض الأسعار لمستويات تقترب من النصف، مما أضر ضررا شديدا باقتصاديات دول منتجة من خارج الأوبك مثل روسيا، التي فقدت عملتها الروبل نصف قيمتها خلال أشهر قليلة. لكن قضية الخلاف حول أسعار النفط وإنتاجه، لم تكن المعلم الأساس في توتر العلاقة بين موسكو والرياض. بل يمكن القول: بأن أزمة العلاقات بين البلدين قد أخذت بالتدهور قبل ذلك عندما اندلعت الحرب الأهلية في سوريا، ومساندة موسكو لطهران في ملف الأخيرة النووي. موسكو استخدمت أعتى أسلحتها الدبلوماسية والسياسية، من أجل الإبقاء على نظام بشار الأسد، الذي مارس كل أشكال جرائم الإبادة الجماعية ضد شعبه، بما فيها السلاح الكيماوي. لطالما هددت موسكو باستخدم الڤيتو للحؤول دون صدور قرار من مجلس الأمن تحت البند السابع ضد الأسد ونظامه، ومن ثٓم زيادة معاناة الشعب السوري...! كل ذلك كان يصب ضد مصلحة العرب وأمنهم القومي... خاصة بعدما اتفقت إرادة كل من موسكو وطهران للدفاع عن الأسد ونظامه. وكانت أزمة اليمن الأخيرة هي بمثابة ذروة التصعيد في أجواء التوتر بين البلدين، وهي أيضا للمفاجأة: نقطة الالتقاء الحاسمة لاستعادة دفة هذه العلاقات وتوجيهها نحو تطور إيجابي يخدم مصالحهما المشتركة. لذا لا يمكن النظر للتطور الإيجابي الأخير بين البلدين دون ربطه بتوقع تطور مماثل، في جميع الملفات السابقة. إذا كانت الآيدلوجية حكمت علاقات الرياض مع موسكو في فترة الحرب الباردة، بل وحتى من قبل ذلك منذ أن قطعت العلاقات بينهما 1938، بعد أن كانت موسكو أول دولة في الغرب والشرق تعترف بالمملكة العربية السعودية في فبراير 1927، فإن ما يحكم هذه العلاقات في الوقت الحاضر، هو متغير مصلحة البلدين الثنائية ورؤيتهما المشتركة للقضايا الإقليمية والدولية، وكذا إمكانات التعاون المشترك بينهما في ملفات تنموية وعسكرية واقتصادية. من هنا ليس صائبا النظر إلى تقارب موسكو والرياض الجديد، رغم عنصر المفاجأة فيه، أنه موجه إلى أي طرف دولي آخر، بخاصة الولايات المتحدة، والغرب عموما. فالعلاقات الدولية في الوقت الحاضر تتميز بالتعقيد والتداخل في عصر العولمة، بعيدا عن أي شكل من أشكال الاستقطاب الدولي، كما كان الأمر في نظام الحرب الباردة، أو الأنظمة القطبية قبل ذلك. الدول، في الوقت الحاضر، تتمتع بمرونة كبيرة في تحديد مسار سياستها الخارجية وعلاقاتها ببعضها البعض. المصالح وليس الآيدلوجية التي تتحكم ــ بصورة «براجماتية» ــ في سلوك الدول على ساحة السياسة الدولية.