×
محافظة المنطقة الشرقية

اجتماعيون.. الكلمة الطيبة تحمي الحياة الزوجية وتقي من أمراض العصر

صورة الخبر

يرمي البحث في نشأة الأدب، إلى تبيان العلاقة بين الأديب والعمل الأدبي. والبحث في طبيعة الأدب يعني إبراز جوهر الأعمال الأدبية، أي خصائصها وسماتها العامة. ويهدف أخيراً البحث في وظيفة الأدب إلى إظهار العلاقة بين الأديب والقراء، أي توضيح أثر الأدب على المتلقين. ولا شك في أنّ الأديب والعمل الأدبي وجمهور القراء أركان أساسية لوجود الأدب، وإذا انتفى ركن من هذه الأركان انتفى وجود الأدب. يدخل الاهتمام بهذه الأركان الثلاثة في مجال نظرية الأدب التي تدرس الظاهرة الأدبية من زوايا نشأتها، ووظيفتها، وطبيعتها في سبيل استنباط وتأصيل مفاهيم تبيّن ماهية الأدب ودوره. وطوّرت هذه النظرية - على رغم اختلاف ممارسيها وتعدّد انتماءاتهم - محاور متنوّعة في دراسة الأدب، من بينها محور يتعلّق بمسألة فهم العمل الأدبي وإدراكه وتأويله، وما يستتبع هذا الفهم من إشكاليّات تتعلّق بموضوع الذاتية والموضوعية في تحقيق النص الأدبي، وفي الكشف عن معناه، وتوضيح موضوعه الجمالي، وفي طرح الأسئلة حول ما إذا كان العمل الأدبي يمتلك وجوداً قائماً بذاته من دون تدخّل الذات الواعية، أم إنّ هذه هي التي تخرجه إلى حيّز الوجود؟ وهل يمتلك العمل الأدبي ماهية أنطولوجية بحيث يمكن الذات أن تدركه كما هو، من دون أن يكون انعكاساً أو نتيجة أفعال التأويل التي يمارسها القارئ عليه. يُمكن القارئ المتابع للنتاج المتعلّق بالنظرية الأدبية في الغرب، أن يمرحل تاريخ هذه النظرية بصورة تقريبية في ثلاث مراحل: مرحلة الانشغال بالمؤلّف (الرومنطيقية والقرن التاسع عشر)، ومرحلة الاهتمام الحصري بالنص (النقد الجديد والشكلانية والبنيوية)، ومرحلة انزياح الاهتمام في شكل ملحوظ باتجاه القارئ في السنوات الأخيرة (نظرية التلقّي). تاريخياً، ساهمت الفينومينولوجيا، إضافة إلى تيارات نقد الأيديولوجيا، في الكشف عن المشاركة الحاسمة للذات المؤوّلة، أو القارئ في تأويل العمل الأدبي، وتبيان دوره في العملية الأدبية، بدل إخفائه وطمسه لحساب النص، وحقائقه اللغوية والتاريخية، أو لحساب الأديب ونفسيته وبيئته. يقوم المنهج الفينومينولوجي كما أسّسه الفيلسوف الألماني هوسرل على فكرة جوهرية مفادها أن الأشياء لا توجد كأشياء في ذاتها مستقلّة عنّا، بل تظهر كأشياء يفترضها أو «يقصدها الوعي». بكلام آخر لا توجد الظواهر إلّا بفعل الوعي الذي يفكّر فيها، أو يشعر بها، أو يقصدها، إذ لا يمكن أن يوجد أي شيء من دون الذات التي تفكّر به أو تقصده. هكذا، فالإدراك هو إدراك «الشيء»، والتمثل تمثّل بـ «شيء»، والتذكّر تذكّر «شيء»، والحبّ حبّ «شيء»، والأمل هو أمل بـ «شيء»، إلخ... يؤكّد الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، على عكس هوسرل الذي كان يرى الإنسان هو الذي يطبع العالم بصورته، أنّ الطبيعة الإنسانية تتميّز بكونها «كاشفة»، أي أنّ الإنسان هو الوسيلة التي بواسطتها تتجلّى الأشياء. ولكن، إذا كنّا نحن الذين نكشف عن وجود الأشياء، فلسنا نحن الذين ننتجها، أو نوجدها. هذا يعني أنّ أشياء العالم مستقلّة عنّا بوجودها، وأنّنا إذا كنّا ضروريين للكشف عنها، فإنّنا لسنا ضرورييّن أبداً لوجودها. ضمن هذا الإطار الفلسفي تمّ النظر إلى العمل الأدبي كموضوع لا يرى النور من دون القارئ، وتمّ اعتبار أنّ الكتابة تفترض مسبّقاً فعل القراءة، نظراً إلى ارتباطهما الجدلي. والقراءة كما يفهمها سارتر لا تقوم فقط على «أساسية» أو ضرورية النص، بل على أساسية الذات القارئة أيضاً، التي لا تستكشف النص في مكوّناته المادية فحسب، بل إنها تخلق بمعنى الإبداع والإنتاج، وليس بمعنى الكشف، موضوعه الجمالي. فهي تبدعه لأنّ النص لا يقوله أبداً، ولا يحدّده. من هنا، يمكننا أن نفهم القراءة كإبداع ثانٍ، أو إبداع من الدرجة الثانية. ويؤكّد سارتر أن القراءة ليست عملية آلية تنطبع خلالها الكلمات، أو العلامات في عين القارىء، أو في وعيه، تماماً كما يحدث في التصوير الفوتوغرافي، بل إنها تثير في ما وراء الكلمات ذاتها «شكلاً تركيبياً» نسميّه عادة «التيمة» أو «الموضوع»، وهو يتخذ شكل المشهد أو الرؤية أو «الصورة الذهنية». وهذا ما يفسّر الشعور أثناء القراءة بأننا نشاهد الأحداث والأشخاص وكل العالم الروائي والشعري، كأنّه يجري أمامنا بفضل أفعال الوعي التخييليّة التي «تجسّمه» وتجعله «متمثّلاً» داخل عين العقل.   تأويلات النصّ إذا كانت مقولات هوسرل وسارتر قادت إلى الكيفيّة التي يشارك فيها القارئ في بناء معنى النص، فإن المفكّر والروائي أمبرتو إيكو ساعد في وضع جملة من المعايير التي تحكم قراءة النص وتأويله. وجاءت معاييره كرد فعل على مقولات التفكيكيّين والبرغماتيّين، التي اعتبرت أن كل قراءة للنص ليست سوى انعكاس لأهداف القارئ المؤوّل ومقاصده وتوجّهاته، لذلك لا توجد قراءة يُمكن أن يُقال عنها إنها سيّئة أو جيّدة، وإنما ثمّة «استعمالات» للنصوص وفق مقاصدنا وغاياتنا المعلنة والخفية. هذا التصوّر لعلاقة القارئ بالنص الذي يعود إلى الفيلسوف الأميركي رورتي، رفضه إيكو، وميّز بين تأويل النصوص واستعمالها، إذ ليست كل التأويلات مقبولة ومشروعة. فتأويل النص بنظره يعني الخضوع إلى وحدته العضويّة، وانسجامه الداخلي، وقصده العميق. أما قهر النص حتى يتلاءم مع مقاصدنا الخاصة، فهو استعمال للنص، بمعنى أنه إجراء يتنكّر للمقاييس والقواعد والحدود التي تتحكّم بفعل التأويل، وأولى المقاييس تتمثّل بتحديد «حقل الإيحاء» وحقل «الاختيار». وهذا يعني أن النص المؤول يفرض تقييدات معيّنة على مؤوّله، وأنّ حدود التأويل تتوافق بالضبط مع حقوق النص، من دون أن يعني ذلك أنها تتوافق مع حقوق مؤلّفه. ظلّ الصراع على الأولوية بين الأديب والنص محتدماً حتى ظهرت نظرية «التأثير والتلقّي» التي طوّرها الباحثان الألمانيّان ياوس وإيزر. هي نظرية أحدثت نقلة مميّزة في مجال «النظرية الأدبية»، إذ صرفت الانتباه عن المؤلف والنص، وركّزت على علاقة التفاعل القائمة بين النص الأدبي وجمهور القراء، من خلال سيرورة القراءة. يعتبر إيزر أن العمل الأدبي هو «بناء للنص في وعي القارئ» وهو لا يكتسب سمة السيرورة التي تميّزه في خصوصيّته إلّا أثناء القراءة. لذلك، لا بدّ من أن ينتقل مركز الاهتمام من النص في مكوّناته، وبنياته، وتقنيّاته، ومن المؤلف في تركيبته النفسية إلى «فعل القراءة» بصفته نشاطاً عملياً»، وباعتباره السيرورة التي ترفد علاقة التفاعل بين النص ومن يقرأه. وقد وجد إيزر في مفهوم «القارئ الضمني» الأداة الإجرائية المناسبة لوصف التفاعل الحاصل بين النص وبين قارئه. إنه مفهوم يؤكد أن العمل الأدبي لا يوجد إلّا كتخطيطات، أو اتجاهات عامة على القارئ، أن يقوم بالكشف عنها وتحقيقها. ولكي يفعل ذلك، يجلب إلى الاستكشاف ضروباً معيّنة من الفهم المسبق، وسياقاً مبهماً من القناعات والتوقّعات التي يتمّ من ضمنها تقويم خصائص العمل المتنوّعة. لكنّ هذه التوقّعات لا تلبث أن تتبدّل بتواصل عملية القراءة التي في أعقابها تبدأ الحلقة التأويلية بالدوران من الجزء إلى الكل، ومن الكل إلى الجزء، قتسقط افتراضات وتتنقّح قناعات، وتقوم استنتاجات أكثر فأكثر وضوحاً، وتتكشّف بالتالي «فراغات تثير عملية التخيّل لدى القرّاء، إنما وفق شروط وضعها في النص. وبمجرّد البدء بملء «فراغات» النص، يقوم بين الطرفين المذكورين تفاعل ديناميكي لا تحكمه أية شيفرة مسبقة، بل تحكمه الجدلية القائمة بين ما يقوله النص، وبين ما يشير إليه فقط من دون أن يعيّنه أو يحدّده، أو يصمت عنه، وهي أمور تحرّض قرّاء النص على فعل البناء والتشكيل. عندما يُمنح القارئ أهمية في ما نُسميه «العملية الأدبية»، تتوازى الأضلع الثلاثة المكوّنة للأدب في حضورها، وهي الكاتب والنص والقارئ، وتتكامل في ما بينها، مؤرّخة لعهد جديد في النظرة إلى الأدب والتاريخ الأدبي.