لحسن الحظ قادنا البحث عن الفنان الصيني العملاق آي وي وي لمفاجأة لم نتوقعها، فالبحث على شبكة الإنترنت وجدنا أن الفنان الصيني يعرض عمله الفني مع الجناح العراقي، والمفتوح للزوار يوم الاثنين. سابقنا الزمن مستقلات الحافلة المائية، والتي تعبر في الجراند كانال، الشريان الرئيسي للمواصلات في البندقية. لاحظنا أنه قد تم تركيب بوابات للتحكم في الدخول لمحطات الحافلة المائية، فبلاشك لاحظت شركة النقل الخسائر التي تتكبدها من دخول الكثير من الركاب بدون تذاكر. من وقفتنا بسطح المركب لمحنا الإعلان الضخم على ذلك القصر العريق المشرف على القناة (الجمال الخفي invisible beauty). هبطنا في محطة أكاديميا متوغلات في الأزقة الضيقة حتى بلغنا القصر بمدخله العريق المشرف على الماء، في الطابق الأول استقبلتنا تلك الملصقات السوداء بعبارة: (اغتصاب البندقية)، ويُذهلك الإسقاط الذي تتضمنه تلك العبارة وتدفعك للتساؤل من المُغْتَصَب: العراق أم البندقية؟ في الحجرة المواجهة كان من المفترض أن يكون عمل آي وي وي، واستقبلتنا فترينة عرض بطول الحجرة وتحوي رسوماً للأطفال، وتكتشف أن العبقري الصيني قد كلف الأطفال في معسكرات اللاجئين بشمال العراق بتقديم رسوم مختلفة عبروا فيها عن أوضاعهم وعن رؤيتهم للفزع الذي تفرضه المنظمات الإرهابية هناك والتي شردتهم من بيوتهم. ولقد أختار آي وي وي من تلك الرسوم الخمس مئة وقام بطبعها في كتاب تم نشره متزامناً مع افتتاح البينالي والكتاب بعنوان (آثار لمحاولات البقاء.Traces of Survival.)، كما قام بعرض رسوم مختارة منها في تلك الحجرة، بالإضافة لشريط فيديو يمثل كامل الرسوم. ينتابك شعور بالعجز أن يهتم فنان عالمي بقضية إنسانية بعيدة عن محيطه بينما يتفاقم الوضع والعجز في الدول المعنية نفسها. تتأمل في الرسوم وتقرأ نزف قلوب أولئك الصغار، وأحلامهم التي لم يمسها بعد الموت والتدمير اليومي المستمر، لوحات تصور ملاعب الأطفال وجلسات البيوت وفرح الأهل والنخل ونهري دجلة والفرات، تجري تلك الحياة جنباً إلى جنب مع رشاشات المنظمات الإرهابية، القنابل تتفجر والحياة تزدهر بقلوب من بقي على قيد الحياة من أولئك الصغار وأحبتهم. هذا الجناح العراقي أعدته مؤسسة رؤيا للثقافة المعاصرة بالعراق وعيّنت لتنظميه القيّم (فيليب فان كوتيرن Philippe Van Cauteren) المدير الفني لمتحف الفن الحديث بمدينة غنت ببلجيكا، والذي استضافته المؤسسة ليتجول في العراق ويختار الفنانين الذين لا يزالون صامدين في العراق لم يهاجروا فراراً أمام الهجمة المنظمة لتدمير الإرث الثقافي والحضاري بعمر سبعة آلاف عام من الزمان وذلك من قبل الجماعات الإرهابية. ويهدف المعرض لتشجيع أولئك الفنانين وحمل نتاجهم للعالم تحفيزاً لهم لمواصلة النضال من خلال الثقافة وبوساطة الفن، إذ لانجاة لعالمنا من الدمار إلا بوساطة التنوير الذي يتعزز بالتلاحم والحوار والجمال الذي يقدمه الفن والثقافة عموماً. ويسلط المعرض الضوء على خمسة فنانين عراقيين من المقيمين بالعراق، وهم: المصور لطيف العاني، وعكام شيخ هادي، والفنانة الأدائية رباب غزول والنحات والخزاف سلام عطا صبري، والرسام حيدر جابر. وحسب مقدمة القيم على المعرض (فيليب فان كوتيرن،) تجيء التسمية (الجمال الخفي) لترمز لحقيقة أن "الفن العراقي يعاني من خفائين، فالحجاب الأول ناجم عن أهمال وجهل الغرب بتاريخ الحركة الفنية الحديثة بالعراق بدايتها العريقة وحاضرها. والحجاب الآخر يتأتى من أنعدام الرؤية في العراق ذاتها وتتجسد في إهمال إمكانات المشهد الفني المحلي، بالإضافة لغياب البنية التحتية وسيادة الفكر الأرثوذكسي الفني، مما يجعل إمكانية اتضاح الرؤية في المشهد الفني بالعراق أقرب للمنعدمة. كل هذا بعد مايقارب الثلاثين عاماً من الديكتاتورية التي جعلت الفنان موظفاً لخدمة السلطة والدعاية لها." ويصرح القيم بوضوح قائلاً: "أنا لست مهتماً بالفنانين الذين لا يزالون يؤمنون بروعة التقليد الفني التشخيصي والتجريدي، أنا مهتم بالفنانين القادرين على تحويل المُدْرَك للغة حيث يشكل المضمون المحلي أهمية لكنه ليس إجبارياً أو مُلزِماً للفنان. إن كلمة العولمة ماهي إلا خدعة، بل إهانة، بالقياس للواقع الذي يعيشه فنانو العراق وغيرها من الدول. فهل ينتقص من عالميتهم اهتمامهم بقضايا بلادهم؟ على العكس، لأن عنايتهم بمفهوم فقدان الهوية وصراعهم من أجل تحقيق الحكم الذاتي يجعلهم يتفوقون عالمياً." ويظهر هذا التفوق في صور الفنان عكام شيخ هادي، والذي يصعقك بصور لأشخاص يفرون أمام هجمة الأرهابيين لكنه يصور الفرار بشكل عميق ورقيق، لكن تتسلل للصور قطعة طويلة من القماش الأسود، تتسلل تلك القطعة مثل أنشوطة ترسم دائرة حول الأقدام والبيوت والشجر، حيث يشكل الأسود مثل مسحوق بارود أو بنزين يتأهب للأنفجار في لحظة. أنه تجسيد للسواد الذي يخنق العراق وحضارتها العريقة وإنسانها، تجسيد بالغ البساطة لكنه صاعق في عمقه، إذ تواجه تلك الصور وتشعر بأنك واقف في أنشوطة مماثلة لن تلبث أن تطبق عليك. وتشعر أنك في نفس الخندق مع قَيًِّم المعرض والفنانين بل والشعب العراقي كافة، وكما يؤكد القَِّيمُ: "أن هذا العرض في مدينة البندقية هو رد فعل لمواجهة العنف ضد البشر وتدمير الموروث الحضاري العريق الجذور." ويظهر ذلك في صور الفنان لطيف العاني، والتي تصور مواقعاً أثرية قام بتصويرها منذ و، ولقد صورها في ذلك الحين للمقارنة بين ماضي الأمة العريق وتحولاتها مع دخولها للعصر الحديث، جاءت تلك الصور لتصف نقطة تحول، والآن تقف تلك الصور ذاتها للمقارنة بينها وبين ما يجري الآن من تدمير لكل مظاهر تلك الحضارة. ويلي تلك الصور الكم الهائل للرسائل المعنونة (رسائل إلى بغداد) للفنان سلام عطا صبري، وهي رسائل تحوي نصوصاً مكتوبة جنباً إلى جنب مع رسوم تخطيطية أشبه بطلاسم ونقوش أحجبة تغطي جدارين كاملين من سقف لأرض تلك الحجرة المطلة على الجراند كانال بالبندقية، ولقد قام الفنان بإنجازها للتوثيق للصدمة التي عاشها منذ رجعته للعراق عام ، والتغيرات التي قام برصدها في تلك الرسائل الأحجبة، هي أشبه بالاعترافات في جلسات تحليل نفسي، تنبش الخفي والموجع وتعرضه للنور ولأعيننا، هي مثل إيقاظ رقيق للمشاهد من غفلة اللامبالاة تجاه آلام الآخر. المعرض يُعنَى بالجمال والذاكرة والتحليل النفسي على السواء، ويعطي صوتاً لفنانين من أجيال مختلفة، يؤمنون بدورهم كفنانين في حمل مسؤولية إنسانية تتجاوز دور الفن الأثوذوكسي كعامل جمالي بحت، ويرسون فنهم في عاصفة معقدة من الفقد والضياع للهوية والذاكرة والجمال، هو معرض يهمس ويُعَبِّر بلطف بمواجهة المشهد القيامي الذي تعيشه بعض مناطق العراق الآن، ويقف الفنانون المختارون بشجاعة وبتجرد من أية قيود أكاديمية وبعكسون حقيقة مايعيشونه مؤكدين أن الفن ينتمي للمجتمع. معرض صغير لايتجاوز الحجرات الأربع لكنه يعطي ثقلاً لحضور الفن عموماً والفن العربي خاصة والمستويات المتفوقة التي حققها، معرض يدعو للفخر من دولة تعاني لكن معاناتها لاتمنع اسثمارها في الفن.