في فورة الحرب الأهلية اللبنانية، تعلمتُ خطورة الحديث في السياسة. حينها كنت يافعا، أجلس ذات مرة على كرسي الحلاقة عند حلاق عربي يُتحف زبائنه بتحليلاته السياسية عن الأحزاب والقوى اللبنانية والفلسطينية، وحين يحتد النقاش يجد الزبون أثر ذلك عبر الوخز بالمقص أو القطع بالموس، فالنقاش مع محلل يمتلك كل تلك الأسلحة مجازفة خطيرة فعلا. لم يتغير شيء! لا زلنا نتحدث في السياسة أكثر مما نتحدث في أي مجال آخر. وكل مجلس أو ديوانية أو لقاء عمل أو جلسة مسامرة تتحول إلى نقاش سياسي ساخن. عادة ما يصاحبه جدل واختلاف وانقسام. ويجري فيه ما يجري في برامج الـ«توك شو» السياسية على القنوات العربية، التي يبدو بعضها شبيها بحلبة مصارعة الثيران. فكمّ من الأصدقاء فقدناهم لأننا اختلفنا في النقاش في شأن دولة تبعد عنا آلاف الأميال. هذا التضخم الهائل في الاهتمام السياسي، وفي متابعة الأحداث السياسية والتلهي بنشرات الأخبار، ومتابعة تفاصيل التفاصيل عن الدول والتيارات والأحزاب والقوى من هنا وهناك يأتي غالبا على حساب النقاش المطلوب بشأن قضايا تهمنا أكثر، كالتنمية والتعليم والصحة والخدمات. أصبح الناس في بلداننا يعرفون أدق التفاصيل عن كل قرية وشارع في الدول الساخنة ومعها يعرفون كل حياة القادة والزعماء، وتصريحاتهم، ومواقفهم، ولكنهم لا يعلمون كثيرا عن بعضهم وعن قضايا تمس حياتهم. حتى الفضاء الإلكتروني أصبح حلبة للجدل السياسي. تعجب أن الجميع أصبحوا محللين وسياسيين وأصحاب قضية. هي قطعا ليست قضيتهم ولا يمكن لصوتهم مهما علا وارتفع أن يؤثر فيها. أما الأمور الخدمية المصلحية المباشرة، فهي لا تغري النقاش بشأنها، ولا قضايا الفكر، والثقافة، والفنّ، والتعليم، ولا حتى المسائل الاقتصادية التي باتت تشكل عبئا حقيقيا يلسع جيوب أولئك المهمومين بالسجالات السياسية. فقد أصبح الجميع مسيسا، ولديه اهتمام بالسياسة، ومنذ أن وجدنا أنفسنا في لجة الصراعات السياسية، أي منذ نحو 40 عاما، ونحن نستورد كل خلافات الآخرين ونجعلها مادة نقاش وجدل وانقسام وعداوة أيضا. ولكننا لم نطور حتى فهمنا وطريقة تفكيرنا. لا زلنا ننظر للأمور بعفوية، ونحكم عليها بـ«طوباوية»، ونتقبلها وكأنها مسلمات. حتى في الآليات؛ هذا الاهتمام الزائد عن الحدّ بالسياسة لم ينتج عنه التعود على قبول الرأي المخالف، والاحتكام للمنطق وليس للعاطفة، والسماح للآخرين بحرية التعبير عن آرائهم والابتعاد عن تقسيم الأمور بين خير وشر، أو أسود وأبيض. ولأن النقاش في السياسة هو نقاش لا حدود له، ولا أفق له، إذا جاء من جماعة «حزب الكنبة»، أو أولئك الذين يشتغلون بالكلام عن هموم الدنيا ويهربون من همومهم. فقد أصبح هذا التسييس المبالغ فيه لحياتنا عنصر تنغيص ونكد. وصرنا نشتبك كلما تحدثنا، وما أن نلتقي حتى ترتفع الأصوات وتعلو نبرات التحدي، وصار النقاش يعزف على إيقاع الأحداث في المناطق الساخنة، وأصبح الشعار الشوفيني المتطرف: «من لم يكن معنا فهو ضدنا»، يُرفع داخل البيوت وبين الزوج وزوجته، والأب وأبنائه. فعلا أصبحت السياسة همّا زائدا عن طاقة التحمل.