كشفت الباحثة تهاني الحربي في دراساتها "الحياة العلمية في المدينة المنورة (1143-1337ه)" التي تصدر قريبا عن مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة، عن ملامح الحراك الثقافي الذي شهدته المدينة المنورة خلال حقبة الدراسة بينها أثر علماء المدينة ومصنفاتهم في ازدهار الحركة العلمية في العالم الإسلامي. وتعرض الباحثة لسلسلة من الوقائع التي توضح الأثر الحاسم لعلماء المدينة في البلدان التي رحلوا إليها على رغم أعبائهم العلمية أو الإدارية في المدينة، حيث عقدوا هناك حلقات الدروس، وحازت مؤلفاتهم القيمة الاهتمام، وعملوا في نسخ الكتب والترجمة وإعداد الفهارس. وتذكر الباحثة عددا من الشخصيات الثقافية بينهم الأديب السيد جعفر محمد البيتي؛ والذي زار الشام واليمن واطلع على عدد من كتب الشعر القديم، وكان لزيارته تأثير في شعره وانتشاره، وكذلك زين العابدين بن علوي جمل الليل الذي دخل العراق وروى عنه جل علماء بغداد رغبة منهم في علو الإسناد. وأهم محطة للمدنيين هي أم القرى وممن اتجه إلى مكة إبراهيم بن حسين بيري والذي أصبح أحد فقهاء مكة وغيرهم الكثيرون. وتشير الباحثة إلى أن مؤرخي المدينة كانوا على قدر من المسؤولية، ولم يتركوا الميدان خاليا للمستشرقين، فجردوا القلم للكتابة في تاريخ مدينتهم، فعنوا بسرد تاريخها، وجمع وقائعها وحوادثها، وغطت مؤلفاتهم التاريخية موضوعات أخرى كالسيرة النبوية، والتراجم والطبقات والفضائل والمناقب. وفي مبحث الوراقين تتحدث الحربي عن ماهية الوراقة وأخلاقه المشتغلين بها وأدواتهم وأماكنهم، والعوامل التي ساعدت على رواج مهنة الوراقة بالمدينة وتطرق الحديث إلى التجليد والترميم، وكيف حافظ المدنيون عن طريق هذه المهنة على مؤلفاتهم ومؤلفات أسلافهم على السوء. وفي سياق المكتبات عرفت المدينة –بحسب الدراسة- أغلب أنواع المكتبات المعروفة والتي كانت تضم نفائس المخطوطات والكتب المطبوعة في فنون متعددة، وبلغات عربية وتركية وفارسية، كانت اللبنة الأولى لها من وضع مؤسسيها، ثم كان للوقف والإهداء دور كبير في زيادة أعدادها، ونتيجة لعوامل عدة من أهمها الأحوال السياسية والمناخية تعرضت للضياع والتلف. وكانت الباحثة قد تحدثت في البداية عن أثر حلقات المسجد النبوي التي كان يعقدها النبي صلى الله عليه وسلم لتعليم أصحابه والتي تعد أول المجالس العلمية فيها، وقد ربت جيلا عظيما من الصحابة الكرام يجمع بين العلم والعمل، وعندما علم النبي صلى الله عليه وسلم أسرى بدر ممن لديهم بعض المعرفة بالكتابة والقراءة جعل فدية فك أسرهم أن يقوموا بتعليم عشرة من صبيان المسلمين. واستمرت المدينة طوال العهد الراشدي عاصمة مزدهرة للدولة الإسلامية، لأن الخلفاء الراشدين ساروا بالتعليم فيها سيرا حسنا لإيصاله إلى كل أفراد المجتمع الإسلامية مؤكدة أن مبدأ "مجانية التعليم" من أهم معطيات العصر الإسلامي الأول.