ما كان ممكنًا أن يكون توقيت المجزرة التي ارتكبها عناصر من «جبهة النصرة» في قرية قلب لوزة بجبل السمّاق (الجبل الأعلى) في شمال محافظة إدلب أسوأ بالنسبة لمآلات الثورة السورية ومضامينها السياسية. هنا، أنا لا أتكلم عن حجم المأساة، لأن سوريا شهدت منذ مارس (آذار) 2011 مجازر أكبر وأفظع. ولا يجوز الإفراط في التركيز على «الأقلية» التي تعرّضت للمجزرة، بينما ارتكب أضعاف أضعافها بحق «الأكثرية» طيلة السنوات الأربع الأخيرة. ليس من الإنسانية في شيء تناسي حقيقة ساطعة، بقدر ما هي مؤلمة، هي أن ثمة قيادات في سوريا توهّمت أن بمقدورها الهروب إلى الأمام من أخطاء حساباتها وسوء فعالها، فاختارت تكرارًا أن تغطي كل جريمة ترتكبها بجريمة أكبر. وهكذا، بنتيجة الدعم الخارجي والتواطؤ الدولي، بلغنا المأساة الفظيعة التي نعيش. إن الجريمة البشعة التي ارتكبت بحق نحو 25 من أبناء قلب لوزة «جزء من كل»، ونموذج من نماذج انهيار الدولة – وفق المفهوم السياسي للدولة – من دون توافر البديل الناضج الثوري لها. لكن لماذا ما حدث في قلب لوزة كان مفجعًا، وكان التوقيت سيئًا، بل كارثيًا؟ الجواب هو أن المجزرة ارتكبت قبل ساعات معدودات من بدء ثوار الجنوب السوري معركة تحرير مطار الثعلة العسكري. وكما أن سكان قلب لوزة، ومعها 16 قرية أخرى مجاورة في الريف الشمالي لمحافظة إدلب، من الموحّدين الدروز، فإن بلدة الثعلة المتاخمة للمطار تشكل البوابة الغربية لمحافظة السويداء، التي يعيش فيها أكبر تجمّع للدروز في العالم. لقد عاش الموحّدون في جبل السمّاق وسفوحه الجنوبية الشرقية منذ نحو ألف سنة حافظوا خلالها على أفضل العلاقات مع إخوانهم وجيرانهم. وعندما قامت «ثورة الشمال السوري» في مطلع العشرينيات ضد الفرنسيين كان البيت الذي لجأت إليه عائلة المناضل إبراهيم هنانو، بطل الثورة الكبير، بيت الوجيه الدرزي محمد علي القصّاب في قرية مرتحوان. ثم عندما اندلعت الثورة الحالية عام 2011 وقفت القرى الدرزية في الشمال السوري مع الثورة، فأمنت الملاجئ والأغذية واعتنت بالجرحى والمصابين. أما في الجنوب، في محافظة السويداء، فإن سكانها كانوا وما زالوا منذ 400 سنة جزءا من نسيج حوران، ولا حاجة لتوثيق الحقب التاريخية فهي معروفة لكل من قرأ تاريخ سوريا المعاصر، سواء إبان الثورات الوطنية ضد الانتداب الفرنسي، أو المشاركة في الحركات الوطنية والأحزاب والقوى القومية في فترة ما قبل انحرافها وتشوّهها. للأسف الشديد، يجب الإقرار بأن نظام الأسد نجح في عدد من الرهانات القاتلة في طريقه لتدمير سوريا، وكان أفظعها وأقساها الإفراط في القمع الدموي وإطالة أمده لتدمير أي اعتدال عند الأكثرية السنيّة. ومن ثم، بعد تغليب خطاب الغضب والشك والانتقام في الشارع السنّي الجريح، باشر ابتزاز الأقليات الدينية والمذهبية بهذا الغضب فحشرها أمام خيارين مريرين: إما القبول بحماية نظام هو في حقيقة الأمر يحتمي بها، أو مواجهة خطر التطرّف الانتقامي. وفي سبيل زيادة فرص طغيان التطرّف، أقدم النظام بالفعل على فتح أبواب السجون مفرجًا عن عدد كبير من الحَركيين الذين يعرف جيدًا تاريخهم السياسي والعنفي. وفي وقت لاحق، غضّ النظر عن تنامي الجماعات المتطرفة وتمدّدها، وعلى رأسها «داعش»، كما فعل في الرقّة وريف حلب وتدمر وريف دمشق الجنوبي. وحقًا، قال أحد دمى النظام السوري في لبنان، أخيرًا، ما معناه أنه عندما ظهر «الجيش السوري الحر» قرّر النظام العمل على إضعافه عبر ترك التنظيمات الإرهابية المتطرفة تنمو في البلاد عمدًا، وهكذا تقضي على هذا «الجيش»، فيجد السوريون أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما: أما النظام أو التطرف الإرهابي. دعم إيران وروسيا المباشر، ثم تواطؤ الولايات المتحدة، أهديا النظام هامش مناورة ممتازًا. بل لقد أدى إحجام واشنطن عن العمل جديًا على إسقاط النظام، برفضها تكرارًا تقديم أي دعم نوعي للمعارضة، إلى توقف الانشقاقات في صفوف الجيش والطبقة السياسية، وإحباط نسبة عالية من أبناء الأقليات ودفعها إلى السكوت والتزام الحياد. وفي هذه الأثناء، كان توافد الجماعات المتطرّفة «المهاجرة» من غير السوريين – وأحيانًا من غير العرب – على الساحة السورية يغيّر شيئًا فشيئًا طبيعة الثورة، ويقضي تدريجيًا على هدفها الأساسي. كذلك أخذ الإحباط والضيق يتسلل إلى أفئدة مناضلي الثورة الذين خذلهم المجتمع الدولي، وعاقبهم على اعتدالهم وسعيهم إلى سوريا حرّة ومستقلة وديمقراطية، تعيش فيها كل مكوّناتها بحرية وكرامة وعدالة. في أي ظرف طبيعي، لا بد من تحرير مطاري الثعلة وخلخلة العسكريين في محافظة السويداء، مع العلم أن النظام لم يفعّل المطارين إلا لقصف الثوار وتدمير قرى حوران وريف القنيطرة. غير أن ربط بعض السذّج والمشبوهين بين تحرير مطارين عسكريين و«دخول السويداء»، بما يستبطن التأديب والمساءلة بعد ساعات مما حدث في قلب لوزة، كان ربطًا خاطئًا. وبسرعة البرق استغل النظام الفرصة. وبعد أيام من محاولته سحب الأسلحة الثقيلة لتسهيل اقتحام «داعش» للسويداء عقابًا على رفض 27 ألف من شبابها الخدمة العسكرية والقتال ضد إخوانهم، «تحمّس» النظام فجأة لتدعيم المطار. ما سيحدث في حوران سيحدد مآل الثورة السورية. إن أبناء السويداء، والدروز في كل مكان لا يراهنون، على بشار الأسد ولا على داعميه، لكن مصلحة الدروز وكل مكوّنات سوريا، أكثرية وأقليات، تكمن في استعادة الثورة السورية هدفها السياسي، وإبعاد مَن يريد تصنيف السوريين والتسابق لمنحهم شهادات في الإيمان والوطنية. إذا كان العالم قد أشاح بوجهه حتى اليوم عن معاناة سوريا قبل أن تسقط تحت قبضة التطرّف، فكيف لنا توقّع سكوته عنها وهي بؤرة للتطرف؟ وإذا كنا اليوم نناشد العالم كله التنبه لمأساة الروهينغيا المسلمين في ميانمار (بورما)، فكيف نقف صامتين إزاء القضاء على الثقة بوطن واحد في سوريا يسمو على الطوائف والمذاهب والعشائر؟