×
محافظة المنطقة الشرقية

(بوت) يقود منتخب الأردن في يوليو

صورة الخبر

بعد يومين من جراحة استغرقت أكثر من ساعتين في العاصمة البريطانية لندن سأل: أيه الأخبار؟. السؤال في ظروفه أوحى بأنه يغالب وجع الجراحة بغريزة الصحافة كأن نبض الحياة هو بالضبط تدفق الأخبار. في الصحافة كل شيء يبدأ بالخبر، (إذا لم يكن صحيحاً تفقد المهنة احترامها). وأي رؤية تحليلية لا تستند إلى قاعدة معلومات مدققة موضوع في الإنشاء السياسي على أفضل الأحوال. بنى تاريخه المهني الذي صنع صيته على تتبع الأخبار واستقصاء جوانبها المختلفة والبحث في الظلال عن قصص جديدة. منذ بداياته الأولى عوّد نفسه على التدوين والتوثيق لكل ما له قيمة، وكان ذلك ولعاً بالأخبار قبل أي شيء آخر. في رأيه أن التدوين يحفظ لخلفيات الأخبار طزاجتها حتى لا تبهت في الذاكرة. الوثائق نفسها، فضلاً عن قيمتها التاريخية، تكشف ما هو خاف وتنير ما هو ملتبس في حركة الأخبار. هذا ليس حديثاً في الماضي بقدر ما هو إطلال على المستقبل، فلا شيء يولد من فراغ ولا قصة خبرية بلا تاريخ. أخلص لأصول مهنته فاستقرت مكانته التي لم تتزحزح بتعاقب الأزمنة. وهو يسأل عن الأخبار فإنه يقاوم ما يؤلم بما يهوى لكنه يطلب في الوقت نفسه أن يطمئن على بلده ومستقبله. أسوأ خبر ألا يكون هناك خبر، إذ إن توقف صناعة الأخبار في أي دولة يعني أن حيويتها في خطر ومستقبلها غامض. في أول توقيت حدده طبيبه البريطاني لقدرته على تحمل مشقة السفر وضع نفسه في طائرة عادت به إلى القاهرة. رغم العلاج الطبيعي الذي يلزمه بضوابط صارمة حتى يكتمل شفاؤه فإن وجوده بالقرب من حركة الأخبار شغف بمهنته لا مثيل له. الصحافة غريزة أساسية لا تولد مع الإنسان كأية غريزة أخرى لكنها عندما تتمكن من صاحبها تحكم كل شيء في حياته. بالنسبة لصحفي يخلص لمهنته فإن سؤاله الأول: لماذا تراجعت الصحافة المصرية؟.. وسؤاله الثاني: هل هناك مستقبل ينتظرها؟. السؤالان شغلا باله في رحلة المرض والعلاج. ولم يكن مستعداً لأية إجابات سهلة على أسئلة صعبة. حاول بالأرقام أن يشرح عمق الأزمة التي تعترض الصحافة المصرية في لحظة حرجة من تاريخها. بالقياس على أرقام التوزيع قبل أربعة عقود فإن هناك مفارقات حادة وإشارات لا تخفى. عدد السكان زاد نحو ثلاث مرات عما كان عليه عام (١٩٧٤) بينما التوزيع الإجمالي للصحف الآن انخفض إلى ما دون النصف تقريباً رغم أن معدلات الأمية انحسرت ومستويات الدخول ارتفعت. عندما خرج من الأهرام في ذلك العام البعيد كان هناك تنافس حقيقي بين الأهرام الأسبوعي وأخبار اليوم على كسر حاجز المليون نسخة. لكل صحيفة شخصيتها التحريرية التي تختلف عن الأخرى في صياغة الأخبار والعناوين وتوضيب الصفحات وطبيعة المواد المقدمة لجمهورها. أرقام التوزيع نصف الحقيقة. نصف الحقيقة الآخر الذي نخفيه الطاقة القرائية للصحيفة والوقت الذي يقضيه القارئ معها والخدمة التي يطلبها. ما حجم المشتركين الدائمين؟. ‬أين مناطق البيع؟.. ف‬قارئ الصعيد غير قارئ الإسكندرية. لماذا يزيد التوزيع في منطقة ويتراجع في أخرى؟. ما معنى الأرقام كماً ونوعاً على الخرائط الاجتماعية؟. هذه أسئلة أساسية في نصف الحقيقة الذي نخفيه. في منافسات الأهرام وأخبار اليوم بالقرب من منتصف السبعينات تراوحت الطاقة القرائية للنسخة الواحدة بين رقمي (٤,‬٥) و(٧) قراء. ‬في أيام كثيرة تراجعت الأهرام لكن طاقتها القرائية كانت أكبر. ‬الجمعة ذروة الأهرام والسبت ذروة أخبار اليوم وكان الأحد هو يوم التنافس الضاري، الأخبار تحاول أن تأخذ زخم السبت إلى اليوم التالي بينما الأهرام تحاول أن توقف النحر وتستعيد السبق من جديد. المنافسة جوهر العمل الصحفي. المثير الآن أن مستويات التنافس قلت رغم زيادة أعداد الصحف المطبوعة عما كان قبل أربعين سنة. رغم الكفاءات الصحفية الشابة التي تعلن عن نفسها، إلا أن الظروف العامة لا تمنحها ما تستحقه من فرص للتنافس بقواعد وإضافة بتأثير.‬ ‬قوة الصحافة في تنوع مدارسها ولا قيمة لأي دور إلا بقدر ما يضيف إلى الخبرات المتراكمة. وهذا تحد مهني صعب. الطاقة القرائية تحد آخر. لماذا تزيد؟.. ولماذا تنخفض؟. في مطلع هذا القرن نجحت صحيفة ظروفها الاقتصادية صعبة ونسخها المطبوعة محدودة أن تكسر أي أرقام مفترضة لطاقتها القرائية، فقد كان قراء النسخة الواحدة من جريدة العربي بين ستة إلى سبعة قراء.. اكتسبت تأثيرها من اتساع طاقتها القرائية لا من أرقام توزيعها. * القيم المهنية تحد ثالث ‬انتهاك قيم الحوار العام أحد أسباب تراجع الصحافة المصرية. ‬بصورة أو أخرى فهناك إعراض من القارئ عن الكلمة المكتوبة. ‬الكلمة المكتوبة فقدت صدقيتها وفي بعض الحالات انتهكت عذريتها. ‬أما السبب الرئيسي لفداحة التراجع فهو تأثير شبكات التواصل الاجتماعي والتلفزيون على قراء الصحافة المطبوعة. هنا صلب الأزمة. تأمل تجارب الماضي قد يساعدنا على النظر إلى المستقبل. ‬ظاهرة أخبار اليوم تستحق التوقف عندها، فقد وزعت في عددها الأول أكثر من مئة ألف نسخة، وهو رقم ضخم بالنظر إلى عدد السكان قرب منتصف الأربعينات من القرن الماضي. تأثرت أخبار اليوم بمدرسة الصحفي البريطاني بيفر بروك في توضيبها ومحتواها وبدت صيغة مصرية من الصنداي اكسبريس ‬كانت نوعاً من الصحافة الشعبية أقبل عليها جمهور القراء. في أوقات مقاربة دعا اللورد نورثكليف، وهو صحفي بريطاني شهير آخر، إلى المقال السريع والخبر السريع تأثراً بالنموذج الأمريكي في الحياة ورائحة ومذاق عصره. ‬كل شيء سريع من الخطوة إلى الوجبة إلى المعلومات والفكر، فالخبر لا يزيد على ٢٥٠ كلمة والمقال في عدد مماثل من الكلمات. ‬أرجو أن تتذكر أن عهد اللورد نورثكليف انتهى مع بداية التجربة الهائلة لتيد تيرنر في الCNN مطلع ثمانينات القرن الماضي بتعبير فرانك جيلز رئيس تحرير الصنداي تايمز. ‬لكل عصر إيقاعه ونحن نعيش الآن عصر الكلمة المسموعة. لكل زمن حواره وحوار هذا الزمن لا يتكلف شيئاً لفك رموز ما هو مكتوب على ورق. ‬إن أي مهتم بالشأن العام سوف يتابع الخبر صوراً متلاحقة على الشاشات المضيئة، وهو يطلب من الكلمة أن تروي له قصة ما جرى على مهل لأن ذلك دورها. ‬كل أسطح الحوادث مكشوفة تحت الومضات السريعة. ‬الكلمة في جريدة تفصل ما وراء الخبر وتروي ما لا تستطيع الصور أن تصفه من دخائل ومشاعر. في العصر الإلكتروني أريد أن أعرف ما الذي دار همساً في أي لقاءات قمة لها أهمية بعد أن رأيت الصور الملونة على الهواء مباشرة. هذه كلها استخلاصات توصلت إليها مناقشات مستفيضة في صالات تحرير صحف بريطانية شاركت في بعضها مع بداية العصر التلفزيوني. و‬هذا ما أدركته كبريات الصحف العالمية وعملت على أساسه في العصر الإلكتروني. استعادت ثقة قرائها وارتفعت من جديد أعداد توزيعها مثل الواشنطن بوست والنيويورك تايمز الأمريكيتين بالتحديد. شعار النيويورك تايمز يلخص فلسفة الصحافة الجديدة في عصر مختلف: كل ما يساوي أن ينشر. ‬الأمر نفسه في الصحافة البريطانية،فقد زاد توزيع الديلي تيلجراف والأوبزرفر ونجحت الأندبندنت في تجاوز أزماتها المالية. ‬راهنت كبريات الصحف العالمية على أن ما فقدته الكلمة بالجدة تعوضه بالعمق. المثير أن التايمز لم تحقق النجاح ذاته رغم أن ملاكها حولوها إلى صحيفة تابليود بحثاً عن شيء من الإثارة يرفع معدلات التوزيع. ‬العصر اختلف وتحدي الصحافة استجدت عليه حقائق لابد من الاستجابة لها حتى ندخل سباقها من جديد...‬ هكذا تحدث الأستاذ محمد حسنين هيكل وهو يتقوى في رحلة العلاج الطبيعي بغريزة الصحافة التي هي عنده معنى الحياة.