الأرجح أنه لم يزد عن خبر صغير تداولته وسائط الإعلام أخيراً، لكنه فائق الدلالة، عن الأنثى في العقد الثاني من القرن الـ 21. في ذلك الخبر، أن شابة عمرها 27 سنة وهي بلجيكيّة من أصل كونغولي، استعادت خصوبتها وقدرتها على الحمل، متحدّية إصابتها بنوع حاد من مرض «فقر الدم المنجلي» («سيكل سيل أنيميا» Sickle Cell Anemia). وبلغت قوّة الإصابة أن علاجها أدى إلى تضرّر مبيضي تلك الأنثى التي شخّصت إصابتها في سن الخامسة، وابتدأ علاجها المكثّف في سن الخامسة عشرة. وحينها، تنبّه الأطباء إلى خطورة وضعها، فعمدوا إلى نزع جزء من مبيضها وتجميده، بانتظار مآل العلاج. وبعد شفائها من «فقر الدم المنجلي»، أعيد زرع أنسجة مبيضها المجمّد، فنمت واستطاعت الشابة البلجيكيّة أن تصبح أماً. ويظهر ذلك الخبر الصغير مدى تمكّن الأنثى، خصوصاً في الغرب، من السيطرة على جسدها ومواصفات أنوثتها، بمعنى أنها تحمل رسالة (جسدها لها - هي تتملك جسدها، وليس الآخرين). كذلك يذكّر بسلسلة هائلة من أخبار تحمل الرسالة عينها (جسدها لها)، ربما أقربها حضوراً (بالمعنى الزمني) في الذاكرة، استئصال أنجلينا جولي ثدييها تجنّباً للإصابة بالسرطان، والتجربة المفزعة في الصين لتعديل جينات الأجنة، وعمليات نقل الرحم وتجميده، والتلقيح الاصطناعي، وغيرها. واستطراداً، يصعب تفادي القول إن الاستنساخ (وملحقه هو الفحوص الجينيّة بأنواعها، خصوصاً للأجنّة) هو العلامة الأبرز لمسار التشابك بين مفهوم الأنثى المعاصرة من جهة، والتطوّر العلمي الحاضر من الجهة الأخرى. نموذج «الفتاة العاملة» تذكيراً، انطلق نقاش حاد حول الأمومة والعائلة وعلاقتها بمدى سيطرة الأنثى على جسدها ورغباتها، عندما راجت حبوب تنظيم النسل في حقبة الستينات من القرن الماضي. وحينها، نظِر إلى ذلك الأمر ضمن الصعود المستمر للحركة النسويّة عالميّاً، مع ملاحظة أنه جاء ضمن تغييرات أشد قوة وعمقاً. وإذا كان صحيحاً ما يذهب إليه بعض المفكرين الأوروبيين المعاصرين من القول إن أنثى القرن الـ 21 تمسك بشؤون حياتها عبر 3 أبعاد متداخلة هي العمل والأمومة والجسد (ويسمّون ذلك «نموذج الفتاة العاملة»)، فلربما يصح القول أيضاً إن الأمومة المعاصرة تتأثر بقوة بالتطورات العلمية، خصوصاً تلك المتّصلة بالهندسة الوراثية (الجينات واختبارات الخصائص الجينيّة للجنين) والتدخل في العلاقة بين الحمل والرحم (تجميد البويضات والتقنيات المتطورة الحمل الاصطناعي)، وبحوث خلايا المنشأ الجذعيّة Stem Cells. وتشكّل تلك الأمور أبعاداً تفرض نفسها حاضراً، بوصفها أبعاداً جديدة في مسائل مماثلة موضوعة قيد النقاش منذ وقت طويل كالإجهاض واختبارات تحديد جنس الجنين (عبر صور الموجات الصوتية أو فحص الخلايا في ماء الرحم) وأساليب تنظيم النسل وغيرها. وبالاختصار، تزيد معطيات في التقدّم العلمي راهناً من صورة التشابك في مثلث العلاقات المتداخلة بين المرأة وجسدها وجنينها. صفاء عرقي «خفي» غنيّ عن القول إن كثيراً من المفاهيم الأساسيّة في الثقافة والاجتماع والسياسة تتقاطع أيضاً مع هذا المثلث «الأنثوي». وفي مثال شائع، يعطي الخلاف بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي في الولايات المتّحدة عن «الحق في الحياة» (مقابل «الحق في الاختيار») و»قيم العائلة» (مقابل «الحريّة الجنسيّة»)؛ نموذجاً عن الآفاق التي تلامسها نقاشات الأمومة المعاصرة. ومع ترشّح هيلاري كلينتون إلى الرئاسة وبروز غير وجه نسائي في ترشيحات الحزب الجمهوري، فلربما برزت تلك الأمور في معركة الرئاسة الأميركيّة في 2016. وفي مثال أشد وطأة ومأسويّة وكوارثيّة ورعباً، فإن استيلاء الحزب النازي الألماني على العلاقة بين المرأة وجنينها، عبر الترويج لمفهوم «اليوجينيا» Eugenia، أي الإنجاب المتّصل بالصفاء العرقي (مع التشديد على تفوّق العرق الآري)، أوصل إلى معسكرات الإبادة الجماعية في «داخاو» و»أوشفيتز» التي خصّصت للتخلّص من الأعراق التي صنّفتها النازية باعتبارها «أدنى» مثل اليهود والسود والغجر وغيرهم. وفي سياق «اليوجينيا»، أنزل النازيون حكماً بالعقم إجباريّاً بنساء تلك الأعراق، وأضافوا إليهن كل من رأوا أن صفاتها أو صفات أسرتها لا تتفق وتصوراتهم عن الصفاء العرقي المتفوق للآريين. وبذا، أكرهت مئات آلاف النساء في ألمانيا والبلدان الإسكندنافيّة على استئصال مبايضهن، إضافة إلى اللواتي طاولتهن يد «اليوجينيا» الدمويّة في الدول التي لقي فيها ذلك المفهوم آذاناً صاغية حينها، كالحال في الولايات المتحدة. وقبل سنوات قليلة، احتفلت تنظيمات نازيّة في أوروبا (مثل «النازيون الجدد» و»حليقو الرؤوس») بالذكرى المشؤومة الخامسة والسبعين لوصول الطاغية أدولف هتلر إلى منصب المستشاريّة، التي تصادفت أيضاً مع ذكرى افتتاح أول معسكرات الإبادة الجماعية في «داخاو». ولعل الكثير من ثقافة تلك الاحتفالات جرت استعادتها في التظاهرات التي نظّمتها حركة «بيغيدا» الأوروبيّة المُعادية لأنواع المهاجرين إلى أوروبا، وهي تظاهرات تفاقمت دلالتها وحضورها بعد ضربة الإرهاب في مقر مجلة «تشارلي إيبدو» الفرنسيّة في مطلع العام الحالي. ولعلها مناسبة للإشارة إلى وجود أنواع «خفيّة» من «اليوجينيا» ظلّت تمارس في البلدان الإسكندنافية حتى سبعينات القرن العشرين، على رغم قوة ما تتمتع به المرأة من حقوق في تلك البلدان. وكذلك تنظر كثير من جماعات الدفاع عن الإنسان إلى سياسة «الطفل الوحيد» في الصين، باعتبارها شكلاً مقنّعاً من «اليوجينيا» المشؤومة.