كثيرون هم المتشائمون من الحوار بين أتباع الأديان والثقافات، ويقولون إن الأمر لن ينجح، ولا جدوى منه.. شخصيا ألتمس لهؤلاء العذر لأسباب كثيرة، منها ظنهم أن هذه الحوارات مبنية على المجاملات، وأن الباطن فيها مختلف عن الظاهر منها.. مؤخرا سنحت لي فرصة شخصية لحضور ملتقى "الشرق والغرب - نحو حوار حضاري" في (فلورنسا)، دعت إليه جمعية (سانتا جيديو)، وسعدت فيه بصحبة (مجلس حكماء المسلمين)؛ الذي يجمع ثلة من علماء الأمة الإسلامية وخُبَرائها ووُجَهائها ممن يتسمون بالحكمة والعدالة والاستقلال والوسطيَّة، واستمعت إلى أطروحات تمنيت وصولها لمن يتفهم أن التعايش مصير، وليس أمرا اختياريا. تذكرت فضل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ـ رحمه الله تعالى ـ الذي قام بدعوة علماء الأمة ومفكريها ومثقفيها للاجتماع في (مكة المكرمة)، قبل سبع سنوات، للخروج برؤية إسلامية موحدة للحوار مع أتباع الأديان والثقافات المعتبرة، وبالفعل اجتمعوا بعدها في (مدريد)، لتأتي بعدها خطوة الانتقال الأممي في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وطرحت مبادرة الملك عبدالله للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، ثم توالت الندوات والمؤتمرات عالميا، وكانت نتائج تلك الجهود تأسيس (مركز الملك عبدالله العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات).. كما تذكرت كلمات صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل وزير الدولة عضو مجلس الوزراء، المستشار والمبعوث الخاص لخادم الحرمين الشريفين، المشرف على الشؤون الخارجية ـ حفظه الله ـ يوم افتتاح المركز، قبل ثلاث سنوات، التي جاء فيها: "إن اجتماع أتباع الأديان والثقافات التي تؤثر على البشر في هذا المركز جاء ليجعلها في خدمة البشر، ولأغراض السلام، ونشر الخير على هذه الأرض ليكون عامل خير، وأن تكون الخلافات المذهبية عنصرا للتفاهم، وليس عنصرا للتصادم". في فلورنسا كانت الصراحة هي العنوان الأبرز للنقاشات طيلة يومي الحوار، وهناك قام رئيس مجلس حكماء المسلمين فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وبحضور جُل أعضاء المجلس، بجوار مجموعةٍ من حكماء الغرب من إيطاليا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وغيرها؛ مثلت ألوان الطيف الغربي من رجال دينٍ وفكر وثقافة وخبرة سياسية؛ بمخاطبة المجتمعين بكلام غاية في الدقة، أختم بالاقتصار على بعض فقراته لضيق المساحة، ليعرف من لا يعرف أن الحوار بين الشرق والغرب ليس للاستهلاك كما قد يشاع.. قال الإمام، وهو من هو في تمكنه الواسع من معرفة ثقافات الأمم وحضاراتها: "إن وضع العالَم الآن هو وضع بالغُ السوء، وإن نظرة جماهير المسلمين في الشرق إلى نظام سيادة القوة واستخدامِها المُفرط لهدم إرادة الشعوب ليست نظرة احترامٍ بكلِّ تأكيد، نعم قد تُعجَب بالقوي وبقوَّتِه، لكنك مع ذلك قد تزدريه بسبب غياب البُعد الخُلُقي والشعور بالآصرة الإنسانية، والأخوة البشرية، وهو الفارقُ بين القوة الغاشمة وقوة العدل والسلام.. بل أذهب إلى أبعد من ذلك وأزعُمُ أن شعور الكراهية الكاسح للنظام العالمي الباطش ليس وَقْفًا على المسلمين في الشرق، بل هو شعورٌ مُشْتَرك بينهم وبين تيار عريضٍ من مُحبِّي العَدالَة والسلام من الغربيين، لأنَّ نوازعَ الأخلاق الإنسانية في تفكير أصحاب هذا التيار وفي شعورهم لاتزال على فطرتها ومبدئها الإنساني الخالص، ولم تتشوه بعدُ بأخلاق القوة والمصلحة والغرض وفلسفات الغاية التي تُبرِّر الوسيلة أيًّا كان قُبْحُ هذه الوسيلة وسقوطُها في حساب الفضيلة وموازينِ الأخلاق".. ورمضان مبارك مقدما.