لا يكترث المخرج الجزائري مرزاق علواش للانتقادات، ولا يعير اهتماماً للتعتيم الإعلامي الذي يلاحق أعماله في مسقط رأسه. يؤمن بأن السينما أدرينالين، وينصاع وراء رغبة جامحة للبوح بما لا يُقال عن تاريخ الجزائر الحديث. ولا عجب في أن تُحاصر الأسئلة القلقة أفلامه، وآخرها فيلم «السطوح» الذي حاز عنه الأسبوع الماضي جائزة أفضل مخرج في الدورة السابعة من مهرجان أبو ظبي، بعدما شهد مهرجان البندقية عرضه العالمي الأول. «الحياة» حاورت المخرج الجزائري الذي منحته مجلة «فاريتي» لقب «أفضل مخرج من الشرق الأوسط» لهذا العام، وسألته عن جديده والأسئلة التي يدنو منها. > ينتقدك بعضهم على تقسيم فيلم «السطوح» الى 5 فصول تسير على إيقاع الدعوات الخمس للصلاة عند المسلمين، والتي تفتتح بها كل فصل. ماذا أردت تحديداً أن تقول بهذا التقسيم وكيف تردّ على من اعتبر أنك تساير نظرة غربية معادية؟ - ما أردته في هذا التقسيم هو أن أضبط إيقاع الفيلم، فأنا لا أقول انّه بسبب هذه الدعوات تحدث الجرائم والمكائد، بل أقول على رغم هذه الدعوات يحدث ما يحدث، وبالتالي لديّ الانطباع بأن هذه الدعوات لم تعد في المجتمع الجزائري إلا لضبط الوقت. فهي وعلى رغم أنها متواصلة على امتداد اليوم، لا تمنع المكائد أو غوص الأفراد في أعمالهم القذرة، سواء كانت صغيرة أو كبيرة. > إذاً، أردت التصويب على النفاق الاجتماعي وفي طريقك مرّرت خطاباً سياسياً ضد المتشددين؟ - ليس لديّ خطاب سياسيّ. أنا فقط أحاول ان أصوّر المجتمع مثلما هو اليوم من وجهة نظري. فـ «السطوح» فيلم يشتغل على تصوّري للمجتمع الجزائري الذي أرى أنه مريض جداً بعد كل ما قاساه وتكبده في السنوات الماضية. ولا مبالغة في القول إننا نعيش وسط نفاق كبير وكذب متواصل في مجتمع انفجر على أهله ولامست شظاياه كل فرد منا. أحاول توضيح الأمور الصعبة التي تحدث في هذا المجتمع من خلال هذه الحكايات. وقد صوّرت هذه القصص كما لو كنت أصوّر 5 أفلام قصيرة تدور في يوم واحد. > كيف تفسّر وجود نموذجين لشيخين في الفيلم، كلاهما يُمارس أعمالاً غير مقبولة تحت عباءة الدين؟ - الصورة تعكس أموراً تحدث في المجتمع الجزائري. فأحد الشيخين يدّعي أنه رجل دين لممارسة تجارة باتت منتشرة جداً في مجتمعنا، وهي مستمدة من معتقدات ساذجة، لكنّ هناك من يصدقها. مثل هذا الامر كان موجوداً في السابق، لكنه لم يكن منتشراً الى هذا الحدّ. ولتسليط الضوء على الدور الجديد الذي تلعبه السطوح، حرصت على أن أصوّر هذه الشخصية المزيفة الغريبة التي تمارس الرقية على السطح. الأمر الثاني، وهذا مؤلم أكثر، يتعلق بسنوات الإرهاب والعنف الصعبة التي مررنا بها في الجزائر من دون أن يصطلح شيء. في إمكاننا تسمية الفترة التي عشناها قبل أكثر من 10 سنوات مثلما نريد. بعضهم يسميها «الحرب الأهلية» وآخرون «الحرب الوسخة» أو «سنوات الإرهاب» و«العشرية السوداء»، ولكن مهما اختلفت التسمية، إلا أن هناك إجماعاً تاماً على الصـــمت وعدم البوح بالحكايات، بل التكاذب بأن الأحــــوال بألف خيــــر. اليوم هناك نظرة خاصة عند الجزائريين لما يحدث في العالم العربي. هم مقتنعون بأنهم بعيدون من الأخطار وأنهم خاضــــوا التجربة قبل كل الشعوب العربية وحلّوا الأزمـــة. ينظرون الى تونس ومصر ويقولون الآن جاء دورهم. وهذا خطأ في النظر الى الأمور. فالخطر يترصدنا من كل حدب وصوب، وهناك تهديد عام، ولهذا يحمل فيلمي كل هذا القلق. >أين ترى مصدر التهديد؟ - التهديد يأتي من تخريب المجتمع. وأرى أن هناك اتجاهاً لجعل المجتمعات العربية مجتمعات مستهلكة للسوقية. المخيف هو اننا نشهد اهتزازات كثيرة ولا ندري كيف نتصرف بالنسبة الى ما يحدث في العالم العربي. فمثلاً لا توجد لدينا اليوم فكرة محددة حول سورية، ونرى أن تونس باتت ديموقراطية لكنّ مشاكلها لم تحل، وفي مصر نطرح السؤال هل نحن أمام انقلاب ام لا؟ هي مرحلة نحن فيها في قلب البركان، وهي تذكرني بمرحلة قديمة عاشتها أميركا اللاتينية قبل ان تستقر الأحوال. ما يطالبنا الغرب به > في فيلمك السابق «نورمال» الذي اعتبر اول فيلم روائي عن ثورات «الربيع العربي» طرحت هذه الأسئلة الضبابية على رغم ان الصورة كانت تبدو يومها اكثر انقشاعاً؟ - «نورمال» سبّب لي مشاكل جمّة، لأنني بطرح هذه الأسئلة هززت يقيناً عند أناس لا يذهبون الى السينما. ففي بلادنا حين يشاهد الجمهور فيلماً أميركياً عن أهل المريخ وهم يخترقون جوف الأرض، يستمتعون وينظرون اليه كعمل فني. ولكن حين يشاهدون فيلماً لنا، يشاهدونه كما لو انه فعل مقاومة ويبحثون عبره عن تاريخ البلد كله، بالتالي يحملون معهم توترهم الى صالات السينما. بعد فيلمي «حراقة» و«نورمال» واجهت قطيعة من الصحافة الجزائرية. كثيرون صدمهم الفيلم وحاكموني على النيات المتخيّلة. وحين قدمناه في وهران شُتمنا ورُمينا بالعبوات الفارغة. وبصراحة لم أصادف في حياتي أمراً شبيهاً، وحين فكّرت في السبب فهمت أنه خارجي، بما ان أفلامي تجول في مهرجانات كثيرة حول العالم. فعندما شاركت من خلال «التائب» في مهرجان «كان»، حاولوا البحث عن أي شيء لمهاجمة العمل، وعندما عجزوا تجاهلوني. ومع فيلمي الجديد «السطوح» الذي شهد مهرجان البندقية عرضه الأول، كان هناك تعتيم كبير في الصحافة الجزائرية بعدما عجزوا عن التأثير فيّ لأقاطع المهرجان بحجة ان هناك فيلماً اسرائيلياً في البرنامج. المشكلة هي أن أفلاماً مثل أفلامي لن تشعل ثورة في الجزائر. ففي بلدنا لا صالات سينمائية وأفلامي لا توزع، وعندما عرضت «نورمال» أو «التائب» عرضتهما ضمن حلقات ضيقة مؤلفة من مثقفين لا يزالون لحسن الحظ موجودين. من هنا أفلام كهذه لا تخيف في الداخل لكنها تثير الذعر بسبب صداها في الخارج كونها تصدّر صورة عن الجزائر لا يريد بعضهم الاعتراف بها. ولهذا يتهمونني بأنني لا أقدم صورة جميلة عن الجزائر، ويسألون عن هدفي من تحقيق أفلام كهذه طالما أعيش في الخارج، وما إذا كنت اخدم أهدافاً غربية ويطرحون علامات استفهام حول من يموّلني. والحقيقة أنني لا اجد الدعم المادي في الجزائر، لذا اضطر تماماً لسلك الدرب التي يسير عليها السينمائيون الشباب من خلال طرق أبواب صناديق الدعم مثل الدوحة. ثم يأتي من يسأل، لم تُموّل أفلامك من قطر؟ > في مقابلة سابقة لي معك، قلت إن السينما لا تصنع ثورات، هل نفهم انك ما زلت على موقفك؟ - هذا أعرفه منذ زمن طويل. ففي الجزائر لا يريدون تنمية السينما وهناك شباب يحارب لصنع أفلام في ظل قوانين تحد من الحريات. من هنا، تصبح هذه المهنة أصعب وأصعب في بلادنا. > لكنّ هذا لم يمنعك من تحقيق افلام عن الجزائر سنوياً؟ - أصنع أفلاماً لأنني تخلصت من بيروقراطية السينما وتغاضيت عن امور كثيرة كنا نستخدمها في السابق مثل الديكورات والماكياج والإضاءة واعتمدت على التكنولوجيا الحديثة مثل كاميرا صغيرة... ببساطة أستعين بهذه الوسيلة لأصوّر ما يشغلني وأريد البوح به. وهناك شبان يعملون بهذا النمط بين الروائي والوثائقي. ومن حسن حظي أنني أجد شباناً مهتمين في بلد مثل الجزائر حيث من الصعب جداً أن تكوني في الوسط الفني... ولا أنكر ان عملي مع الشباب هو الذي يمدّني بكل هذه الطاقة. للسطوح دور طبيعيّ > بالعودة الى فيلم «السطوح»، يرى بعضهم أن مرزاق علواش يُبدع حين يعود الى حي «باب الود». ما تعليقك؟ - «باب الود» هو الحيّ الذي نشأت فيه. وكلما زرت الجزائر أعود اليه، خصوصاً أنني أرى التراجع الذي أصاب المجتمع من خلاله. عندما نتحدث اليوم عن عنف في الجرائر نتحدث عن «باب الود». وعندما نتحدث عن فيضانات نتحدث عن «باب الود». هو حي شعبي مكتظ سكانياً وله خصوصية كبيرة، ولهذا كلما أعود اليه، تتراكم الصور القديمة وتتقاذفني الذكريات. في «السطوح» لم أصنع فيلماً عن «باب الود»، بل اخترت 5 أحياء بينها هذا الحي، فالجزائر مبنية على سفح تلال، وكل تلك الأحياء التي صوّرتها هي أحياء شعبية، ولا أبالغ إن قلت إن في الجزائر لا وجود إلا للأحياء الشعبية، حتى وسط العاصمة تحول الى حيّ يجلس فيه الشبان أمام أبواب المنازل، كما لو كنا في القرى. > لماذا ينظر الفيلم الى الجزائر من سطوحها فحسب؟ - الفكرة الاولية للفيلم كانت النظر الى جزء من المجتمع الجزائري من خلال السطوح التي لم تعد تلعب دورها الطبيعي. فالجزائر هي مدينة تقع على البحر الأبيض المتوسط، ولهذا للسطوح دور أساس في هندستها المعمارية. ولا أزال أحمل من أيام الطفولة ذكرى كيف كانت هذه السطوح حواضر النساء، والمكان الذي ترى فيه شبح النساء. ولهذا، هناك دائماً في البال صورة لامرأة على السطح تطل في الليل برداء أبيض. هي ذكريات لم يعد لها وجود بسبب المشاكل الاجتماعية وأزمة السكن. وللأسف باتت السطوح اليوم أشبه ببيوت الصفيح حيث الصراعات والمشاكل، وبالتالي يمكن الاشتغال على التحولات في المجتمع من خلال هذه السطوح. أما سينمائياً، فهي مهمة جداً لأننا نصوّر من الداخل والخارج من دون ان نواجه قيود التصوير في الشارع حيث بات الامر صعباً جداً في بلد مثل الجزائر. > تعمل في فرنسا لمصلحة التلفزيون... - نعم هذا أمر آخر، قد لا تكون نتيجته مرضية، لكنه وسيلة جيدة لكسب العيش. > سينمائيون كثيرون يتعالون على التلفزيون ويعتبرون أن العمل فيه أدنى مستوى. ما تعليقك؟ - عملت لقناة «آر تي» المعروف عنها جدّيتها وأفلامها التي تصوّر كما لو انها للسينما. كما عملت لقناة «فرنسا 2» حيث الامور تقاس أكثر بمقاييس التلفزيون. صوّرت فيلمين بين «نورمال» و«التائب» ولم أكن مسروراً من النتيجة. وقد سبّب لي الامر مشاكل إضافية في الجزائر، لأن الجزائريين يشاهدون التلفزيون الفرنسي ولا يمنعون أنفسهم من القول إنني فرنسي، فلماذا آتي الى الجزائر وأصنع أفلاماً عنهم. أنا اليوم في وضع معقد جداً، لأن لدي الفرصة أن أعمل في فرنسا برصانة وأجلس وراء مكتب وأصدر التعليمات للتقنيين حيث كل شيء متوافر لي، لكنني مع هذا أسعى وراء المتاعب في الجزائر، وربما يعود السبب الى كوني أعتبر السينما بمثابة أدرينالين، بمعنى أنني أحب أن أكون دوماً في حالة من التوتر، وقد أكون أدمنت هذا الشعور.