أسباب كثيرة جعلت نتائج الانتخابات التركية الأخيرة، ليست مجرد حدث محلي تركي لا يعني سوى الأتراك، لعلّ أهمها أن هذه الانتخابات الأخيرة بالذات، قد ارتبطت بمشروع أردوغاني طموح، كان من المفترض أن تتغير بعده بنية النظام السياسي التركي بالكامل، وأن يتحوّل الطموح التركي التقليدي، من مجرد حلم الانخراط في الاتحاد الأوروبي، إلى حلم قيادة الفضاء الإسلامي السني، وفق ما يمكن تسميته بـ»العثمانية الجديدة» بعد إعادة تأهيل جغرافيا الإقليم، وإعادة هيكلة النظم السياسية في أغلبية دوله بما يستوعب الظرف، ويتسق مع الحلم. جرت الانتخابات التركية، في ظرف إقليمي متفجر، فيما بدت سياسة «صفر مشكلات مع الجوار» التي دشنها أحمد داود أوغلو، نكتة فقدت حتى قدرتها على الإضحاك، بعدما انغمست أنقرة في قضايا الإقليم على نحو غير مسبوق في تاريخها كله، فهى موجودة في سوريا، بل إن سوريا بلاجئيها ونازحيها باتت موجودة هى أيضًا فيها، وهي موجودة في العراق، بل إن محاولات اقتفاء أثر بعض الدواعش، كانت وما زالت تنتهي داخل الأراضي التركية التي تسلّلوا عبرها إلى سوريا والعراق، أو عادوا إليها جرحى ومصابين، فيما يلح الرئيس الأمريكي على حليفه التركي بأن «يزيد» من مراقبة حدوده مع الجوار ليدفع شبهات بأنه يغض الطرف عن نشاط الدواعش. نتائج الانتخابات التركية تقول: إن حزب العدالة والتنمية، لن يعود للحكم منفردًا، وأن أية محاولة للدخول في ائتلاف مع حزب آخر أو أكثر، سوف تكون على حساب مبادئ الحزب، وأنها قد تقود إلى تآكل قاعدته الشعبية التي استغرق بناؤها أكثر من ربع قرن، وفي كل الأحوال فما هو آتٍ في تركيا بعد الانتخابات سيكون بالضرورة مختلفًا بدرجة كبيرة عمّا اعتاده الأتراك في سنوات صعود أردوغان، وما اعتادته المنطقة أيضًا من سياسات، قادت أنقرة إلى مصادمات مع بعض دول الإقليم، وخلافات مع بعضها الآخر. حسابات إقليمية ودولية سوف تتغيّر حتمًا في ضوء نتائج الانتخابات التركية، فمستوى الانخراط التركي في الملف السوري قد يشهد تراجعًا، وكذلك قد نشهد تغيّرًا في موقف أنقرة من الحكم الجديد في مصر، والذي ناصبه أردوغان عداءً مفتوحًا، فضلاً عن إمكانية تراجع أنقرة عن دعم جماعة «فجر ليبيا» المنبثقة عن الإخوان المسلمين، لكن كل ذلك يبقى رهنًا بالشكل الذي سيتم بمقتضاه معالجة توابع الانتخابات، ففي حال شكّل حزب أردوغان حكومة أقلية، فإنها ستكون بطة عرجاء، يستطيع البرلمان نحرها في أي وقت، أمّا في حال دخل في ائتلاف مع اليمين القومي أو مع الأكراد، فإن توابع هذا الائتلاف ستطال الإقليم كله، وفي حال استدرج أردوغان منافسيه وناخبيه إلى انتخابات مبكرة ربما بعد شهور قليلة، فقد يمنحه الخائفون من تدني الوضع الاقتصادي قبلة الحياة، ويعيدونه إلى صدارة المشهد مجددًا، وقد ينجح خصومه في الإجهاز عليه ووضعه خارج مستقبل تركيا. في كل الأحوال، يبقى أن ثمة أزمات قد يتعرض لها الإقليم، جرّاء التحوّلات الدرامية في المشهد السياسي التركي، لكن ثمة فرص ما تزال مفاتيحها تحت دواسة أزمات الإقليم، بين هذه الفرص -مثلاً- أن إمكانية إعادة هيكلة «ذاتية» للنظام الإقليمي العربي، تصبح أعلى مع تحييد العامل التركي أو تقليص تأثيره، ومن بينها كذلك أن واشنطن قد تجد نفسها مضطرة إلى التخلّي عن فكرة استبدال أنقرة بقوى التأثير العربية، ومن بينها أيضًا، أن جبهة التصدّي لتهديدات داعش تصبح أكثر تماسكًا وأقل اختراقًا، بالإضافة إلى أن جماعة الإخوان -ذلك الفصيل الذي برهنت الحوادث والشواهد على كونه أنتج أخطر مكونات التهديد في المشهد الإقليمي- تفقد الحاضنة الرئيسة لها. لقد تعايشت المنطقة مع تركيا الكمالية على مدى ما يقارب ثمانين عامًا، حتّى باتت إدارة العلاقات مع أنقرة الكمالية، مسألة سهلة لا تعرض الإقليم أو قوى معينة فيه لاختبارات من أي نوع، ولا شكّ أن العودة لقواعد اللعبة القديمة قد يكون أسهل وأفضل لمعظم دول الإقليم. دخول أكراد تركيا إلى البرلمان ككيان سياسي معترف به، هو أيضًا فرصة ينبغي اغتنامها، باعتباره أبرز إنجازات الانتخابات الأخيرة، فاستدعاء هذا النموذج إلى العراق وسوريا قد يكون إحدى أدوات صيانة وحدة التراب الوطني للبلدين العربيين. moneammostafa@gmail.com