يعقد الأزهر في هذه الآونة لقاءات مع عدد من المثقفين والمفكرين والعلماء من أجل المشاركة في صياغة وثيقة تَصدر من الأزهر الشريف وتتناول آليات وضوابط تجديد الفكر والخطاب الديني، لكي تسهم الوثيقة فور صدورها في وضع أسس حقيقية، وخطط جادة ورؤى عملية تحمي المجتمع من الفكر المتطرف، الذي بات يهدد الاستقرار والأمن المجتمعي بأخطار محدقة. يشارك بجوار علماء الأزهر في صياغة هذه الوثيقة الوطنية، عدد كبير من الباحثين والمفكرين والمثقفين والكتَّاب من جميع الاتجاهات الفكرية والسياسية والثقافية، يعرضون رؤاهم ومقترحاتهم حول آليات وضوابط تجديد الفكر والخطاب الديني خلال الحلقات النقاشية التي سوف يتبناها الأزهر. تأتي فكرة إطلاق وثيقة الأزهر حول آليات وضوابط تجديد الفكر والخطاب الديني ضمن جهود الأزهر الشريف المتواصلة لمكافحة الإرهاب والأفكار المتطرفة، واستلهاماً لتجارب ناجحة تبناها الأزهر الشريف، ومن بينها الوثيقة التي أصدرها في يونيو/حزيران سنة 2011 كاقتراح لتنظيم مستقبل مصر، وكذلك وثيقة الأزهر لنبذ العنف، والتي أطلقت في يناير/كانون الثاني سنة 2013، وسوف يعقب إصدار الوثيقة بعد اكتمالها التنسيق مع جميع الجهات المعنية في الدولة لتنفيذ توصياتها على أرض الواقع. وجاء استقبال الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخراً للإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر لتأكيد الدور التاريخي الذي يقوم به الأزهر في نشر قيم الإسلام السمحة المعتدلة، والتعريف بصحيح الدين الإسلامي، وهو اللقاء الذي أكد فيه الرئيس أهمية مواصلة دور الأزهر في تلك المرحلة الدقيقة، عبر تصويب الخطاب الديني وتنقيته من أي أفكار مغلوطة، بما يساهم في الجهود المبذولة لمكافحة التطرف والإرهاب وموجة التكفير، وقد أشاد الرئيس بجهود الأزهر المبذولة على الصعيدين الداخلي والدولي داعياً إلى مواصلتها وتعزيزها، مؤكداً دعم الدولة الكامل للأزهر الشريف في تحقيق رسالته السامية التي تهدف إلى بيان صحيح الدين ونشر قيم الإسلام المعتدلة السمحة. فضيلة الإمام الأكبر استعرض خلال اللقاء، الجهود المختلفة التي يقوم بها الأزهر الشريف لنشر قيم الاعتدال والتسامح وقبول الآخر، بالإضافة إلى مكافحة الفكر المتطرف، وفي هذا الإطار، عرض فضيلته الخطوات التي تم القيام بها لإصلاح التعليم الأزهري وتعديل المناهج الدراسية في المرحلتين الإعدادية والثانوية بالمعاهد الأزهرية وتقديمها بطريقة مبسطة ومختصرة لإيصال المعاني المطلوبة بشكل مباشر إلى الطلاب، إضافة إلى الشروع في تطوير المناهج الجامعية بالأزهر الشريف، بعد التعرف إلى تجارب الدول المتقدمة في التعليم الجامعي والاستفادة منها، وتدريب وإعداد المعلمين من الأزهريين لتدريس المناهج الجديدة، التي تضمنت عدداً من الموضوعات المطروحة في عالمنا المعاصر. وهي قضايا تبدو أهميتها واضحة في تحضير الأزهر من الداخل لكي يقوم بالدور المتجدد والمهمة المنوطة به، وتبدأ بالضرورة من مواجهة التطرف والإرهاب والتكفير، وهي مهمة يقوم فيها الأزهر بأدوار على المستوى الدولي، وقد أشار الدكتور الطيب في هذا الإطار إلى دور الأزهر الدعوي في الخارج عبر إيفاد الأئمة والوعاظ المؤهلين لعدد من دول العالم، فضلاً عن النشاط الذي يقوم به الأزهر الشريف لإحياء شهر رمضان المعظم في مختلف الدول عبر علمائه الأجلاء، واستقبال الطلاب الوافدين من الدول الإسلامية، لافتاً إلى التعاون القائم مع دولة الإمارات العربية المتحدة في هذا الصدد عبر تمويل إنشاء مركز الشيخ زايد لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، والذي ساهم بفاعلية في تحسين قدرتهم على التحصيل واستيعاب المناهج الأزهرية. وفي سياق متصل، كان الأزهر الشريف قد عقد العديد من المؤتمرات الدولية، ومن بينها مؤتمر الأزهر لمواجهة التطرف والإرهاب بمشاركة رجال الدين الشيعة ورؤساء الكنائس الشرقية وممثلي الفاتيكان، فضلاً عن وفود من 120 دولة، وقد صدرت عن المؤتمر وثيقة الأزهر لنبذ العنف والإرهاب وتصحيح المفاهيم المغلوطة، والتي تجرى ترجمتها حالياً إلى عدة لغات مختلفة بالتعاون مع دولة الإمارات الشقيقة. يبرز دور الأزهر الجامع والجامعة والمشيخة في محاربة الغلو والتطرف والإرهاب باسم الدين، بعد أن أصبح الغلو الديني والتطرف الفكري يمثلان إحدى أكثر القضايا التي تؤرق المجتمعات العربية، وتشكل تهديداً خطراً لنمائها واستقرارها وتطورها وتقدمها، وبعد أن ثبت على أرض الواقع أن الغلو الديني والتطرف الفكري صارا يشكلان المصادر الأساسية لتفكك المجتمعات وتمزيق النسيج الاجتماعي وباتا من أهم منابع العنف والإرهاب وتكريس آليات التخلف عبر التاريخ. ومبكراً أدرك الأزهر (الجامع والجامعة والمشيخة) أن مواجهة التطرف الفكري والمنظمات الإرهابية تتطلب وضع استراتيجية شاملة تتسم بالفاعلية والقدرة، وتسهم في تحديدها كافة القوى الحية في المجتمع من خلال حوار واسع تشارك فيه المؤسسات الحكومية المعنية، والمنظمات الأهلية والمفكرون ورجال الدين والخبراء والسياسيون، لبحث أفضل السبل لصياغة هذه الاستراتيجية وتحديد أولوياتها وأهدافها. لا يمكن لأحد أن يزعم بأن عقد مؤتمر أو مؤتمرات عديدة يكفي لمحاربة التطرف، ولا يمكن لأحد كذلك أن يقول إن التطرف سيختفي من المجتمع بسهولة أو في مدة قصيرة، لأننا أمام ظاهرة اجتماعية استغرق تغلغلها في المجتمع عقوداً، وساعدت على ذلك ظروف سياسية واجتماعية أوجدت بيئة ملائمة للتطرف لينمو وينتشر ويتسرب إلى العقول والنفوس، ومحاربته لاشك تحتاج إلى جهد طويل المدى ومتعدد الأوجه. وسبق للأزهر أن قام بهذا الدور بامتياز، ومن يريد أن يعرف قدر الأزهر، وإمكاناته في مواجهة الفكر المتشدد، يستدعي إلى ذاكرته الدور الذي قام به في التسعينات، لإرجاع كبار الإرهابيين إلى صوابهم، وهو ما عُرف إعلامياً يومها باسم المراجعات الفقهية التي تعد دليلاً دامغاً على قدرة الأزهريين الحقيقية، حيث شارك فيها الشيخان، الشعراوي والغزالي، ولم يقفا متفرجين، بل سعياً مع الدولة إلى تصحيح المفاهيم الخاطئة والمغلوطة التي يتكىء عليها الإرهابيون والمتطرفون في أفعالهم المنافية لكل عقل سليم ودين صحيح. رسالة الأزهر الشريف منذ قرون هي تقديم الإسلام في وسطيته وسماحته، وقد بدا عبر تحركات الأزهر الشريف خلال السنتين الماضيتين أن الأزهر على وعي تام بأن الأمة تخوض غمار أمواج عاتية من التحولات والصراعات والتغيرات السياسية والدولية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأن الدين هو إحدى أهم الأوراق التي يحاول أن يستخدمها كل طرف في صراعه، وقد وقف الأزهر برصيده الهائل من العلم والعلماء حجر عثرة في مواجهة توظيف الإسلام وتسخيره لمطامع السياسة، ومن ثم حاولت الأطراف المتصارعة استقطاب الأزهر واستخدامه كورقة من أوراق الصراع. ولقد كانت دوافع الإخوان المسلمين في الهجوم على الأزهر واضحة، خاصة وقد وقف أمام أطماعهم وأمام استغلالهم للدين في تحقيق مآرب سياسية، وقد تأكد خلال وجودهم في الحكم أنهم يسيرون بمصر إلى المجهول، رغم تمكين الموالين والمناصرين لهم في كل المواقع بغض النظر عن الكفاءة والقدرة، وهو ما كان يهدد مستقبل مصر وشعبها. وقد تنبه الأزهر إلى ذلك مبكراً، ما استعدى الإخوان ودفعهم إلى شن حملات ظالمة متوالية عليه، وخاضوا معارك ضارية لاختراقه وزرع أنصارهم فيه، والإخوان لم ينسوا حتى اليوم أن الأزهر كان في طليعة القوى التي استعادت مصر في ظل تأييد غير مسبوق من الشعب المصري، ولم ينسوا وجود الأزهر ممثلاً في شيخه حاضراً لحظة إعلان بيان الثالث من يوليو/ تموز سنة 2013 إلى جانب كل القوى الشعبية والدينية والسياسية الحريصة على مستقبل مصر. مواقف الأزهر المعلنة، تنتصرُ للقيم ولبناء الدولة، كما تقتضيها ضرورات العالم المعاصر، وكلها قائمةٌ على رؤية شرعية مُتبصِّرة، وتستند إلى تراث علماء الأزهر وغيرهم، بما يدحض أفكار الدولة الكهنوتية، التي تحاول بعض القوى فرضها بدعوى أنها إسلامية، وأنَّ سواها خارج عن الإسلام، وهي أفكارٌ واجهها الأزهر وتصدى لها بقوة، وكشف فسادها وخطأها. تقف مصر الآن في مفرق طريق تاريخي يجب أن يلعب فيه الأزهر الشريف دوره القيادي، وأن يجعل من الدين الحنيف كما هو المفروض شرعاً وعقلاً أداة داعمة للنمو والتقدم والتطور على الصعيد الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي لإصلاح حال البلاد والعباد، لا أن يكون وسيلة للفرقة والتكفير والتدمير في مجتمع يئن أكثر من 90% من سكانه من الحاجة والفقر بدرجات متفاوتة، فلا يصح أن يكون حديث المادة الثانية من الدستور عن تعريف الشريعة، بل يجب أن ينصب الاهتمام على توظيفها عملياً في دعم مبادئ العلم والعمل، التي هي فقط ستغير الحال إلى الأحسن وتؤدي إلى استنارة العقول والقلوب وتجنيد كل الجهود في مشروع نهضوي حقيقي.