تصدير يقول مشلينيا بطل مسرحية (أهل الكهف) لتوفيق الحكيم، لحظة صدمة الخروج من الكهف بعد 3 قرون من السبات العميق، ليجد أن العالم من حوله قد تغير، وانهارت معه جميع الأحلام المحمولة في الذاكرة: (الحياة بدون حلم لا تساوى شيئا، فهو والعدم سواء، فمن ماتت أحلامه مات). ] ] ] كما على الصعيد الفردي، فإن لكل شعب حلما يحيا به من أجله، فالحلم هو الذي يعطي لوجوده معنى ودافعا للحياة، وهذا أمر بدهي، لأن الأمة إذا ماتت أحلامها ماتت وانتهت، أو عليها ان تجترح أحلاما جديدة. والمتابع للحالة العربية التي نحياها في الوقت الحاضر يلاحظ دون عناء، أن سمة اللحظة هي الخيبة العربية مترجمة بانهيار الأحلام الكبرى (الحداثة-الحرية-الوحدة-العدالة-الديمقراطية-التنمية...) حيث لم يبق منها شيء غير الفوضى والتوحش والبؤس المقيم، والعودة على الاعقاب الى البنى الطائفية والقبلية للتحصن... ففي ظل التشظي والتوحش والفوضى ماذا بقي للعرب من أحلام؟؟ قبل ذلك دعونا نتفحص فيما يحلم به الاخرون، لنرى موقعنا في العالم؟ الميثولوجيا الامريكية على سبيل المثال تتحدث عن (الحلم الأمريكي) الذي ساهم في إرسائه أوائل معمري القارة الجديدة، وملخصه: شخص بسيط يبدأ من الصفر أو بالشطارة، يبدأ من أسفل الجبل، وبعد تعب يتمكن من الصعود إلى قمة الهرم، فيبني إمبراطورية صناعية أو علمية أو سينمائية. وقد تشهد هذه الرواية المسطحة تلوينات أخرى. ومهما يكن من أمر هذا الحلم الأمريكي فإنه يرسخ مجموعة قيم المجتمع الرأسمالي بوجه عام. أما في الضفة التي كانت مقابلة وجد ما يمكن أن نسميه الاشتراكي: الذي يعطي القيمة للعمل، لا لرأس المال المتراكم... ويتمثل في صورة العامل الذي يعمل في إحدى التعاونيات، وينافس زملاءه في الإنتاج. ويتمكن في الأخير من التفوق عليهم في العمل. وتتم مكافآته بميدالية، وسمعة محترمة وإطلاق اسمه على التعاونية التي يعمل بها أو على شارع أو طريق او مدرسة. وهكذا يحلمون باختزال، فبماذا نحلم نحن بعد انهيار الاحلام الكبرى؟.. هل بصورة الفقير الذي يبدأ من الصفر، ويصل إلى بناء أكبر المؤسسات بفضل ابتكاره وعمله؟ أم بصورة الكادح الذي يجد اعترافا وشهرة وتقليداً من نظرائه؟ أم هو العصامي الذي يروم إنشاء إمبراطورية تغطي العالم؟ أو العصامي الآخر الذي يتجه إلى الخلود في بال الكادحين؟ الجواب بالنفي طبعا.... ولكن من المؤكد أن لدينا نموذجنا للحلم، يمكن اختزاله في المعادلات التالية: كثرة قروض وقلة مشاريع... وكثرة مشاريع وقلة انتاج وقلة ناجحين... وقلة منتجين. فما أبعدنا عن الدكاكين التي بدأت صغيرة وتحولت فيما بعد إلى تروستات ضخمة... فلا أحد عندنا يريد أن يبدأ صغيراً... ولا أحد يقدر على ذلك أيضاً... والذين سيبدأون صغارا يظلون صغاراً... أما العمل والسهر والكدح... فالكل يعلم أنها جميعاً-لا تكاد تجدي وحدها نفعا للوصول إلى القمم...إلا في حالات محدودة لا تكاد تذكر، فالعامل أو الموظف المجد، يمكن في أحسن الأحوال أن يفوز برتبة خادم مطيع باستمرار. أما الذين أرادوا أن يكبروا فقد فتحوا لأنفسهم أبواباً أخرى غير هذه الأبواب... فجميع عتبات السلم لا تعمل على أساس الكفاءة والدراية والجدوى والجدية والإخلاص في العمل، فهذا قيم في طريقها الى الانقراض، فاجهل واحد يمكن أن يعمل أفشل مشروع، وأسخف فكرة يمكن أن تفتح أمامها ابواب الفردوس!! حلمنا أن نأخذ من المؤسسة ومن أموالها لبناء البيت الفخم ولشراء السيارة الفخمة وباقي عناصر الزينة، دون تعب أو مجازفة أو ذكاء... أما اقصى حلم (الكادح) فهو أن يحافظ على الراتب حتى التقاعد، وعلى المعاش حتى الموت، إن منتهى الحلم عند الكبير والصغير يتجسد في مورد رزق سهل...لا تعب فيه ولا تفكير ولا ابداع، وأن ينام متى يشاء ويستيقظ متى يشاء، وأن يذهب إلى (العمل) متى يشاء... وألا يحتاج إلى استخدام وسائل النقل العام... وألا يدرس أبناءه في المدارس العامة... وألا يدفن في المقبرة العامة مع (الرعاع)... وماذا عن أحلام أولادنا أولادنا يبدون بالرغم من محاولات تأثيرنا الضاغطة عليهم يتجهون نحو بوصلة عالم بلا هوية يقودهم ويهتدون به، هذا العالم ترسم اتجاهه الدعاية التجارية وغير التجارية النموذجية المرتبطة بقيم غريبة بمرجع العقل، قيم استهلاك بدون انتهاج، لان المشكلة ليست في الاستهلاك وإنما في الاستهلاك العنيف والمتوحش المجرد من الإنتاج. جيل جديد يطلب كل شيء ويأخذ بدون عطاء، أو بعطاء محدود، ويستجيب بصعوبة بالغة لبواعث العمل وقيم التضحية والتطوع، فردية مستفزة ورغبات تنزع نحو الظواهر الشكلية، في ظل التأثير المفجع للدعاية الاستهلاكية والتأثير السلبي للقيم الشكلية التي تربط بين مكانة الإنسان وبين مختلف أشكال المظاهر والاكسسوارات التي تروجها الدعاية التي تحولت إلى آلهة وثنية، على حد قول الباحث الفرنسي (انياسيو راموني) الذي كتب يقول: إن الدعاية تبيع لنا كل شيء من دون تمييز كأن المجتمع الاستهلاكي مجتمع من دون طبقات ومن دون قيم ومن دون أحلام مثالية، وكأنما الجميع قادرون على اقتناء كل شيء كما يبدو في الصورة المنقولة عبر الدعاية، ومن يتخلف عن اقتناء تلك الصورة المنقولة في الدعاية يظل خارج الإطار، فهو مهمش هو خارج الحداثة الشكلية. همسة انتحر الشاعر اللبناني الراحل خليل حاوي حين غزت جحافل القوات الإسرائيلية أرض بيروت سنة 1982 احتجاجاً على التراجع العربي وعلى دخول بيروت العصر الإسرائيلي واحتلال اول عاصمة عربية في التاريخ المعاصر. وقبل سنوات قليلة انتحرت المثقفة المصرية أروى صالح التي خيرت أن تلقي بنفسها من الطابق الحادي عشر انتحارا على حياة ثقافية بدون معنى، وانتحر بعد ذلك عشرات المثقفين والعلماء والمفكرين العرب احتجاجا على البؤس الفكري والثقافي والنكوص عن الثوابت، وتلك مجرد أمثلة على الوجه المادي للانتحار العربي، فما بالك بالوجه المعنوي الأكثر دراماتيكية، دون الحديث عن الانتحارات الأخرى النفسية والفكرية والسياسة.