كــل النساء أحـاديثٌ بلا سندٍ وأنت، أنت حـديثٌ لابـن عبــاس!! كل عاشق يرى فتاته أجمل النساء، فالعاشق لا يختلف عن الأم التي لا ترى في طفلها سوى أنه أحلى الأطفال!! العاشقون من الشعراء ملأوا الأرض غزلا بجمال حبيباتهم، منذ امرئ القيس حتى نزار قباني، تغنوا بجمالهن وبأصواتهن وبمشيتهن وبأحاديثهن، لم يدعوا شيئا فيهن لم يتغنوا بجماله، فالحبيبة لا مثيل لها في الحسن والبهاء، إن سارت بين نظيراتها فهي المعتدلة طولا، وإن طلت بوجهها فهي الأكثر ضوءا، إن أقبلت هي الأخمص بطنا، وإن أدبرت هي الأثقل ردفا، وإن حسرت فهي الأطول شعرا، إن نظرت فلحظها سيف، وإن همست فصوتها تغريد، وإن نطقت فحديثها خمر!! الشاعر العاشق لايرى جمالا في الدنيا سوى جمال حبيته، وصاحب البيت السابق ليس استثناء، لكنه لا يفعل ما اعتاد الشعراء فعله، هو لا يسبغ أي صفة من صفات الجمال التقليدي على الحبيبة، فلا يتغنى بورد الخدود ونرجس العيون، ولا يتباهى بأن حبيبته غصن بان، هيفاء، فرعاء، لا شيء من ذلك، يكفيه فقط أن تكون الحبيبة في بهائها ووهجها كالحديث الصحيح وسط ركام من الأحاديث المزيفة والمكذوبة! رغم أنك تحس بروعة جمال هذا التشبيه تشدك، إلا أنك لن تتذوقه كما يتذوقه أهل الحديث الذين يعرفون حقا معنى صدق الإسناد!! تخيل نفسك وأنت في حيرة من أمرك، لا تدري أي طريق تسلك، ولا كيف تواجه الظلمة التي تطمس المعالم أمامك فتتركك لا تعرف إن كنت على الطريق الصحيح أم انحرفت بك القدم، وكل ما لديك من استدلالات وخرائط، كذب وزيف لا يمكنك الركون إليها أو الوثوق بصدقها، ثم فجأة ينبثق أمامك من بين الركام المتناثر استدلال يشع الصدق من جوانبه، فإذا حيرتك تشرق بالضوء كقنديل يتلألأ في سواد الليل!! تفتيق المعاني الجميلة، وتوليد التشبيهات المبتكرة، ليس أمرا مسلما به في كل القصائد ولا يجري سلسبيلا عذبا على ألسنة كل الشعراء، فالذين يدعون قول الشعر كثر، لكن الشعراء الحقيقيين قليلون، الشاعر الحقيقي هو من يستطيع أن يثير دهشتك ويهز وجدانك كلما سبحت في بحور معانيه. وهذا البيت يبدو خاليا من سمات جمال الشعر التقليدية، فهو لا يتغنى بجمال المحبوبة الحسي، ولا يسح الدمع ألما وحزنا على فراقها، ولا يئن بالشكوى من قسوتها، لا شيء من ذلك، لكنه مع هذا، يكتنز بالجمال الذي يجعل قلبك يرقص طربا، فما تملك سوى أن تميل إليه متعلقا به. الشاعر جاسم الصحيح صاحب البيت، شاعر فحل، جادت به أرض الأحساء كما تجود بأعينها الرقراقة ونخيلها الباسقات، سمعت باسمه من قبل وإن لم أقرأ له شيئا قبل بيته هذا، فلما قرأته، آمنت أن أرض الشعر لم تفقد خصوبتها ولن..