في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2011، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما انسحاب آخر دفعة من الجنود الأميركيين من العراق في عملية خروج ممنهجة منذ العام 2007. وفي 18 ديسمبر/كانون الثاني 2011، تم الإعلان عن انحساب آخر جندي أميركي من العراق، وقد احتفظت الولايات المتحدة حينها بعدد كبير من العاملين في صفوف سفارتها في بغداد بلغ عددهم حوالي 17 ألف موظف، بالإضافة إلى عدد آخر من المتعاقدين في المجال الأمني والعسكري بمعدل حوالي 4500 متعاقد. هذه المعطيات أتاحت لأوباما حينها الإعلان عن أنه نفذ وعده بسحب القوات الأميركية من العراق، وأنه استطاع أن يقدم نموذجا لعراق ناجح ومتماسك، وأنه لن يكون هناك إرسال لأي جنود أميركيين لكي يقاتلوا على أرض العراق أو في أي مكان آخر بعد الآن. " يرى كثيرون أن لا إستراتيجية حقيقية لإدارة أوباما في مواجهة داعش باستثناء إستراتيجية "تمرير الوقت" ورمي المشكلة على الرئيس الأميركي القادم، مما حدا بالبعض لوصف الإستراتيجية التي أعلن عنها أوباما بـ"الوهم" " لكن لم نضطر إلى الانتظار طويلا حتى نرى العراق في أسوأ حالاته. والمفارقة أنه وبسبب سياسات رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي أتت به الصفقة الأميركية الإيرانية في العراق، فإن العراق كان يتجه إلى الانهيار الشامل والتشظي، وحصلنا في النهاية على "داعش" الذي شكل معضلة كبيرة لإدارة أوباما، لاسيما بعد احتلاله الموصل في ساعات قليلة في يونيو/حزيران 2014، وذلك لعلمها أنه لا يمكن هزيمة تنظيم كهذا من دون أن تكون هناك قوة عسكرية على الأرض. ولأن أوباما لا يريد إرسال القوات الأميركية، فقد كانت إستراتيجيته تقوم على إشغال "داعش" وصد تقدمه والضغط عليه لإضعافه عبر استخدام ما تبقى من قوات الجيش العراقي وقوات البشمركة، على أن يتم ذلك بموازاة خطة تهدف إلى تدريب تسعة ألوية من الجيش العراقي وثلاثة من المسلحين الأكراد، أي ما مجموعه حوالي 24 ألفا، تشرف على تدريبهم قوات أميركية، ويتم تأمين الغطاء الجوي لهم من الجو، على أن يُصار أيضا إلى إنشاء حرس وطني من أجل تحفيز السنة على الدفاع عن مناطقهم واستقطاب العشائر السنية، تمهيدا للقضاء على "داعش". وبالفعل في سبتمبر/أيلول 2014، تشكل التحالف الدولي ضد "داعش"، ثم وافق أوباما على إرسال قوات أميركية (مجموعها حوالي ثلاثة آلاف) في نوفمبر/تشرين الثاني 2014، على أن تكون مهمتها حصرا القيام بأعمال التدريب والتسليح للقوات العراقية وتقديم الاستشارات الأمنية والعسكرية دون القيام بأعمال قتالية على الأرض. في يناير/كانون الثاني 2015، عقد أعضاء التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" اجتماعا في لندن على مستوى وزراء الخارجية لتقييم مدى التقدم الدولي المحرز في الحملة العسكرية التي تُشن ضد التنظيم منذ شهر سبتمبر/أيلول من العام الماضي. وفي نهاية الاجتماع، أدلى وزير الخارجية الأميركي جون كيري بتصريحات قال فيها إن تقدم التنظيم توقف أو تراجع، وإن الأسلحة الأميركية ستصل قريبا إلى القوات العراقية، وإن الجهد ضد تنظيم "داعش" -والذي تضمن شن نحو ألفي غارة جوية عليه- قد أدى في نهاية المطاف إلى استعادة نحو سبعمئة كيلومتر مربع. بعد أربعة أشهر فقط على هذا التصريح، سقطت الرمادي كاملة بيد "داعش" في العراق، وقد قال الرئيس الأميركي أوباما حينها مبررا أن "الرمادي سقطت لأنها كانت معرضة لذلك منذ البداية، ولأن القوات العراقية التي كانت متواجدة فيها ليست من فئة القوات العراقية التي دربتها أو عززتها الولايات المتحدة". لكن وفي نظرة شاملة على الوضع، يرى كثيرون أن لا إستراتيجية حقيقية لإدارة أوباما في مواجهة داعش باستثناء إستراتيجية "تمرير الوقت" ورمي المشكلة على الرئيس الأميركي القادم. فالبعض وصف الإستراتيجية التي أعلن عنها أوباما بـ"الوهم"، والبعض قال إنها مجرد سياسة تهدف إلى ضمان أن لا يرسل الأميركيون جنودهم إلى الأرض للقتال وأن لا يخسروا العراق كليا في نفس الوقت، وآخرون قالوا ببساطة إنها ليست معركتنا. ولذلك، فمن الطبيعي أن نجد أن ما تحقق بعد تسعة أشهر من تشكيل التحالف الدولي ضد داعش ليس بالكثير، لعدة أسباب أهمها: التركيز على البعد الأمني من الملاحظ أن الجانب الأمني والعسكري يطغى بشكل كبير على سياسات مكافحة "داعش"، وقد يؤدي ذلك في مرحلة من المراحل مستقبلا إلى نتائج سريعة نسبيا على الأرض، لكن أضراره ستفوق حتما منافعه، وسرعان ما ستظهر هذه الأضرار على المدى المتوسط والبعيد، وما ظاهرة "داعش" اليوم التي أتت بعد تنظيم القاعدة إلا دليلا على ذلك. " ورقة العشائر السنية ورقة محروقة، لأن هذه القبائل عندما قاتلت القاعدة وسحقتها تمت مكافأة أفرادها بالسجن والتعذيب والنفي والطرد والقتل، ويراد منها الآن أن تقاتل "داعش" مع اعتراض الحكومة والقوى الطائفية على تدريبها وتسليحها اللازم للقيام بهذه المهمة " لا يكفي أن يتم التضييق على التنظيم ماليا وأن تمطر مواقعه العسكرية بالصواريخ وأن يتم اغتيال قادته وأن تجفف منابعه الأيديولوجية والفكرية، ليتم الانتصار عليه. إذ يجب تفكيك العوامل الموضوعية التي أدت إلى ولادته، بمعنى آخر يجب التعامل مع المسببات وليس النتائج. ظاهرة داعش ظاهرة مركبة ومعقدة والعوامل الأساسية التي أدت وتؤدي إلى ولادتها وتكاثرها هي عوامل سياسية في الأساس، لذلك يحتاج التعامل معها النظر إلى ما هو أبعد من الخيار الأمني والعسكري. من الواضح أن إدارة أوباما لا ترى ذلك. وحتى إذا افترضنا أن لهذه الظاهرة عوامل دينية وأمنية، فكيف يمكن القضاء على التطرف الديني في الوقت الذي يتم فيه التغاضي والسكوت عن الممارسات الطائفية وعمليات الإرهاب التي تنشرها أيضا جماعات أخرى تابعة لطهران في أماكن الصراع الأساسية في الشرق الأوسط. هناك عدة حقائق يجب التعامل معها، إذ لا يمكن إنكار حقيقة أن التهميش الواسع والظلم والتعامل العنصري والطائفي والإجراءات الأمنية التي طالت غالبية بعض الشرائح العراقية نتيجة سياسات المالكي، بالإضافة إلى الدور الإيراني في دعم هذه السياسات، قد أعاد إنتاج نسخة جديدة أكثر تطرفا من القاعدة تسمى "داعش"، ووفرت البيئة المناسبة لعملها واستمرارها. ولا يبدو أن ترتيبات مواجهة "داعش" الحالية تأخذ بعين الاعتبار أولوية معالجة هذا الوضع لتأمين الاستقرار السياسي والأمني، وإتاحة الفرصة أمام القوى المعتدلة للعمل بقوة ولحرمان المتطرفين من البيئة الحاضنة عبر انتزاع الذرائع التي تغذي وتدعم حججهم. حكومة العبادي لا تبدو مختلفة كثيرا عن سابقتها، كما أنها جعلت موضوع "محاربة الإرهاب" أولوية قبل موضوع المصالحة الوطنية. ما هو الضمان للشرائح السنية التي ستحارب "داعش" بأنهم لن يتعرضوا لما تعرضوا له من قبل عندما نجحوا في محاربة القاعدة؟ لا شيء. إذا لم يكن لدى الحكومة العراقية دافع لحل الموضوع الآن، فعلى الأرجح لن يكون لديها دافع في فعل ذلك بعد القضاء على "داعش"، وسنعود حينها إلى الدائرة المفرغة نفسها. إدارة أوباما نفسها لا تبذل أي مجهود للضغط على حكومة العبادي لتنفيذ وعودها التي قطعتها والتي تلقت بناء عليها دعما إقليميا ودوليا. في الاجتماع المغلق للمجموعة المصغرة للتحالف الدولي لمكافحة "داعش" الذي جرى في باريس في 2 يونيو/حزيران الحالي على سبيل المثال، لم يتطرق جون كيري نهائيا لضرورة إيفاء حكومة العبادي بالتزاماتها الداخلية، وبدا كأنه يتحدث باسمها في كثير من الأحيان. تكرار نفس الأخطاء لا يمكن لخطة تأهيل القوات العراقية أن تنجح بشكلها الحالي، فقد سبق أن قامت واشنطن بتدريبها منذ العام 2003 وحتى العام 2012، وأنفقت عليها قرابة 26 مليار دولار، ناهيك عن حوالي أربعين مليار دولار أنفقها المالكي عليها، وتوزعت بين فواتير تسلح وإغداق للأموال على الأتباع وشراء ولاء المليشيات الطائفية ودمجها بالجيش والقوات الأمنية، وكانت النتيجة انهيارات سريعة للجيش في أبسط المواجهات. أما ورقة العشائر السنية، فهي ورقة محروقة لأن هذه القبائل عندما قاتلت القاعدة وسحقتها المرة السابقة تمت مكافأة أفرادها بالسجن والتعذيب والنفي والطرد والقتل من قبل المالكي وأتباعه. واليوم يراد منها أن تقاتل "داعش" مع اعتراض الحكومة والقوى الطائفية في العراق على تلقيها التدريب والتسليح اللازم للقيام بهذه المهمة، في وقت يرفض فيه هؤلاء أيضا تشكيل الحرس الوطني. إرهابيون لمحاربة إرهابيين الاعتماد على إرهابين لمحاربة إرهابيين آخرين أمر خطير للغاية، فعدا عن كونه غير أخلاقي وغير قانوني، ويعكس ازدواجية طالما استفادت منها تنظيمات مثل "داعش"، فهو يكرس المنطق القائل إن هناك استهدافا محددا للسنة في الشرق الأوسط، فـ"عندما ينتفضون لا يسمعهم أحد وعندما يضطرون إلى حمل السلاح يحاربهم الجميع"، ويتم استغلال هذا المنطق لتجنيد أبناء السنة الذي يتعرضون للقهر. إن جزءا أساسيا من تطبيق إستراتيجية أوباما ينطوي على الاعتماد بشكل مباشر أو غير مباشر على إرهابيين في محاربة "داعش"، سواء من المليشيات الشيعية أو الكردية. " قبل القضاء على "داعش" هناك حاجة للقضاء على سرطان المليشيات العراقية، وقبل الحديث عن توظيف القبائل والعشائر السنية هناك حاجة لحصول السنة على حقوقهم المشروعة، ودون حل هذه المشاكل الحقيقة، ستبقى الأمور على حالها، بل قد تتحول إلى أسوأ خلال السنوات القادمة " الجانب الأميركي بدأ منذ شهر سبتمبر/أيلول من العام الماضي يعتمد شيئا فشيئا على المليشيات الشيعية المكونة من الحشد الشعبي، وعلى قوات الحرس الثوري الإيراني الموجودة في العراق إلى جانب الجيش العراقي، وقد كانت -ولا تزال- الطائرات الأميركية في كثير من الأحيان تلعب دور سلاح الجو التابع لهذه المليشيات. هذه المليشيات الطائفية لا تقل وحشية أو خطورة عن "داعش"، وعدد منها مدرج على قائمة الإرهاب الأميركية، ومع ذلك لم تجد إدارة أوباما حرجا من التعاون معها. التعاون مع إيران التعاون مع إيران لمواجهة تنظيم الدولة "داعش" يؤدي وسيؤدي إلى كوارث، كما أنه يشكل ورقة ممتازة للتنظيم لتجنيد المزيد من الأفراد. وحتى على فرض أن هذا النوع من التعاون قد أثمر، فإن النتيجة المباشرة له -وفق ما أثبته السلوك الإيراني خلال عقود من الزمن- ستكون إفساح المجال أمام نظام الملالي لإحكام نفوذه في المحور الممتد من طهران وحتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط. يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أيضا أن أي انتصار على تنظيم الدولة لا يتضمن خطة للتعامل مع خطر أدوات إيران وأذرعها في المنطقة، سيؤدي عمليا من الناحية الواقعية إلى زيادة الطائفية وإزالة العوائق أمام نظام الملالي لتسيد هذه المنطقة الجغرافية وفرض شروطه في العراق والانتقال بعدها ربما إلى الساحة السورية بقوة، على اعتبار أنه اللاعب الوحيد حينها الذي ستكون لديه قوة معتبرة على الأرض، تابعة له سواء بشكل مباشر (الحرس الثوري وجيش من المليشيات الشيعية) أو بشكل غير مباشر (القوات العراقية)، ولنا أن نتصور حينها كيف سيكون وقع ذلك على المنطقة بأسرها. خلاصة الأمر أن كل الخطط الحالية تتم على المستوى التكتيكي في ظل غياب تصور إستراتيجي مُحكم، وهي تدور في حلقة مفرغة، وقد تمت تجربتها سابقا ولم تحل المشكلة بل فاقمتها، وذلك لسبب بسيط جدا وهو أنها تتجاهل كليا جذور المشكلة ومسبباتها الرئيسية التي أدت إلى ولادتها وتضخمها. فبدلا من إعادة تدريب وتسليح نفس القوات العراقية التي تشكل المليشيات غالبيتها العظمى، هناك حاجة لبناء جيش وطني عراقي، وقبل ذلك هناك حاجة لحكومة وطنية جامعة وليس لمجموعة نُدل يقومون بطبخة أميركية في المطعم الإيراني. وقبل القضاء على "داعش" هناك حاجة للقضاء على سرطان المليشيات العراقية، وقبل الحديث عن توظيف القبائل والعشائر السنية هناك حاجة لحصول السنة على حقوقهم المشروعة في الوطن العراقي. ومن دون حل هذه المشاكل الحقيقة، ستبقى الأمور على حالها بل قد تتحول إلى أسوأ خلال السنوات القادمة، وسنكون قد ضيعنا الوقت والمال والجهد والأوطان فقط قبل أن نعود ونكتشف ذلك حينها.