يمكن القول إن الفعل الإبداعي بأشكاله كافة قائم على التجريب، ولا يمكن له أن يتنامى أو يتجدد من دون هذا العمل الذي يبدو أساس الفعل البشري على الأرض، إذ يؤكد تاريخ الأجناس الإبداعية أنها سلسلة من المحاولات التجريبية الفاشلة والناجحة نفذها آلاف المبدعين طوال مئات وآلاف السنين، لتأخذ شكلها وهويتها التي نعرفها اليوم. لذلك كله يظل الفعل الإبداعي، سواء كان قصيدة، أم لوحة، أم عملاً روائيا أو غيره من الأجناس الإبداعية، يظل رهين التجريب ومفتوحاً على سلسلة من الاحتمالات التي لا حصر لها، فما يمكن قراءته اليوم على صعيد القصيدة العربية، لم يكن لأي ذهنية فذة أن تتخيله قبل ألف عام، وكذلك الحال في ما يتعلق باللوحة، والقصة، وسائر الأجناس الإبداعية. إذن، يبدو الأمر طبيعاً أن يخضع الإبداع إلى التجريب، وأن يأخذ أشكلاً وأنواعاً جديدة، لكن لماذا رغم هذا الواقع يظل فعل التجديد والتجريب منبوذاً ومرفوضاً لفترة زمنية تطول أو تقصر حتى تندغم وتصبح وحدة واحدة مع الشكل الإبداعي الأصيل نفسه؟ الإجابة عن هذه الإشكالية تعد إجابة عن إشكاليات إبداعية عالقة في المشهد الثقافي العربي والعالمي، فمنها يمكن الانتهاء تماماً من قضية قصيدة النثر، ومنها يفض النقاش حول إدراج الصورة في قائمة العمل البصري الإبداعي، ومنها يحل النزاع بين رواد المدارس التشكيلية الكلاسيكية، ورواد مدارس الفن المعاصر والحديث، وكذلك لا يصبح العمل الفني المشغول بخطوط وتقنيات رقمية عملاً من الدرجة الثانية أو الثالثة. الأهم من ذلك كله تلك العلاقة التي تربط بين التجريب والهوية الإبداعية، فالتجريب عماد الهوية ولا يمكن أن يحدث هذا التمايز بين المبدعين من دون اللجوء إلى التجريب، إذ على صعيد القصيدة مثلاً، أنتج التجريب مئات الهويات النصية، فبات المتابع والقارئ، يعرف كاتب القصيدة من مزاجها ولغتها، وكذلك فيما يتعلق باللوحة فالمجموعات اللونية، والتكوينات وكل عنصر يخدم بناء اللوحة هو ملمح يرسم هوية الفنان الإبداعية. لهذا يمكن القول إن التجريب ضرورة لحياة الإبداع وإنتاج مجموعة من الذائقات الفنية والأدبية، فاليوم يؤكد القارئ والناقد لمجمل التجربة الروائية لنجيب محفوظ أنه أستطاع ان يرسم خصوصيته الأدبية عبر لغة تنفلت من العامية إلى الفصيحة رغم أنها تبحث عميقاً في الحارة والريف المصري لتشكل معه نسيجاً واحداً لا يبدو فيه النص المكتوب غريباً عن الشخصية الفاعلة في العمل الإبداعي، إضافة إلى أنه عبر سلسلة من التجارب وجد في الحي الضيق بكل ما يشتمل عليه من تفاصل مساحة خصبة لطرح مضامين ومحمولات كونية وإنسانية شاسعة. الأمر ذاته يظهر في تجربة الشاعر الراحل محمود درويش، إذ يجد العائد إلى تاريخ منجزه الشعري أنه مر بتحولات عدة كل منها شكلت تجربة مغايرة لما سبقتها، فظل منجزه ينمو بالحذف والإضافة إلى أن صار له قاموسه الشعري، وفرادة مزاج القصيدة لديه، وهذا ما ينطبق على معظم الأسماء الشعرية الكبيرة في العربية والعالمية. يبدو التجريب في صيغته الأوضح عند الحديث عن التشكيل، فالتجريب يظهر على صعيد الأدوات الفنية، والموضوعات، والخامات، وحتى الخطوط، والمجموعات اللونية، إذ تبدو المساحة واسعة لسلسلة من التجارب التي يمكن أن تكون باباً جديداً لحالة تشكيلية متفردة، فكما تظهر هوية الفنان الكولمبي فرناندو بوتيرو في اختياره التضخيم في تكوينات أعماله، تظهر هوية الفنان سلفادور دالي في عوالمه السيريالية القائمة على فنتازيا الحلم وجموح الخيال. وكذلك الحال عند الحديث عن الفنانين العرب الذي جربوا استخدام خامات متنوعة لإنتاج عوالم لونية جديدة، منهم من استخدم البهارات في لوحاته كالفنانة الإماراتية نجاة مكي، والفنان الفلسطيني محمد الحواجي، ومنهم من استخدم الرمل في أعماله كالفنان السوري سعود العبدالله الذي استبدل الألون كلها بالرمل، فصار يستخدم رمالا بيضاء، وسوداء، وبرتقالية، وغيرها في تنفيذ أعمال عالية الاختزال. قبل كل تلك الحالات الفردية الواضحة التميّز، يؤكد الدارسون لتاريخ ظهور الحركات الإبداعية سواء الأدبية، أو التشكيلية، أو السينمائية، انها كلها وليدة عمليات تجريب متواصلة لمبدعين كبار، أسعفتهم التجربة فصارت لهم مساراً ولمن بعدهم مدرسة.