** في صباحات جدة الحالمة التي بلل أهدابها الندى وقف شيخ مسن تجاوز السبعين متسائلا: عند شاطئ «بحر الطين» لماذا اختفى عطر الياسمين ولماذا يقطعون ويقتلون «الأشجار» وهي الرئة التي تتنفس منها المدينة -هنا وبإزاء تلك البيوت العتيقة المطلة على ميدان باب جديد - ميدان البيعة حاليا، كانت تقف عند كل باب شجرة.. وتتسلق أغصان الياسمين واجهات تلك «النزل» التاريخية التي بنيت من شعاب البحر ومرجانه.. والتي لا تزال شامخة برغم الهجر والجفا.. ومغادرة سكانها ومعظمهم من الأثرياء والعوائل الكبرى في جدة والتي عرفت الغنى في زمن الفقر. ** هؤلاء الأغنياء الذين نزحوا عن جدة القديمة لماذا لا يهتمون بمسقط رؤوسهم وبيوت العز التي بناها الأجداد والآباء بسواعدهم.. وعرق جباههم وتسابقوا في بنيانهم وأناقة وجمال مساكنهم.. أليس من الوفاء الحفاظ على تراث الآباء والأجداد.. ولماذا تبقى هذه البيوت متهالكة تصارع الزمن.. برغم قدرة أهلها على ترميمها وتجميلها وفقا للطراز الذي بنيت عليه. ** ثم لماذا لا يعاد بناء فندق جدة بالاس.. الذي شهد ذلك اليوم التاريخي لمبايعة الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، ومن شرفة هذا الفندق الرائع أطل الملك فيصل على جموع المواطنين التي احتشدت في ميدان باب جديد لمبايعته. ** هذه الأماكن التاريخية التي لا يمكن أن تمحى من ذاكرة جدة وأهلها.. لماذا نهملها.. ولا نهتم بها. ** وحتى في نهضة وتطور مدينة جدة بدأ العبث بمعالم المدينة والسطو بقسوة على مجسماتها الجمالية وأشجارها ولم يبق شارع رئيسي في جدة إلا وقطعت أشجاره.. بحجة توسعته مترا أو مترين.. واستنزاف أموال الدولة بلا مبرر.. والواقع أن قطع الأشجار أمر مناف لكل الأعراف.. في العالم.. ** وقد رأيت بعيني كيف -قامت الدنيا ولم تقعد- في ألمانيا.. عندما أراد أحد السفراء العرب قطع شجرة في مدخل بيت السفير -ذلك البيت الأثري- وقد أرادوا توسيعه وترميمه وفي هذه الحالة الغريبة في نظر الألمان لم تكتف -البلدية- وحدها بالاحتجاج بل الحكومة الألمانية وأوقفوا ذلك العمل المشين ورفضوا رفضا قاطعا قطع شجرة عمرها مائة وعشرون عاما أو ترميم وتغيير ملامح مبنى من الخارج.. هؤلاء هم في الغرب ونظمهم وقوانينهم ونحن هنا في الشرق العربي نقطع الأشجار ونفسد رئة المدينة كل بطريقته.. ولا أزيد.