كشارب الخمر لا يستطيع أن يسير في خط مستقيم، مُطمئن إلى أنه في حالة اتزان لا يدرك أنه يتمايل يمينا وشمالا، يترنح في خطوة ويسقط في الثانية ولا يرى نفسه إلا ثابتا كالجبال، يستمر به الحال على هذا المنوال إلى أن يذهب مفعول الخمر، فإن حصل واستعاد وعيه وذهبت سكرته وبدأ يسير في خط مستقيم، حن للخمر ولج به الشوق إلى مقارعتها من جديد، ليعود من جديد للترنح والتمايل وهكذا لا يستقيم له حال أبدا. ما سبق ليس تشبيها إنما تقريب للصورة، صورتنا نحن، نحن الذين تسكرنا قيمنا ومبادؤنا، عباراتنا السامية وشعاراتنا الرفيعة تذهب بعقولنا، لا نرى أنفسنا إلا على ثبات ونحن نتمايل ذات اليمين وذات الشمال، نتوهم الاتزان ونحن نترنح عند كل خطوة، يستمر بنا الحال على هذا المنوال إلى أن نتعرض لصدمة ثقافية توقظنا، فنستيقظ ونبدأ بمراجعة أفكارنا ومفاهيمنا ونقد وغربلة إرثنا كله، لكن سريعا ما نحِنُ لسكرتنا، ونعود لرفع شعارات أكبر من أحجامنا، لكي تسكرنا وتذهب بعقولنا، فنطمئن رغم مرارة الواقع! هذه حالنا كل مئة عام، وكشارب الخمر يحتاج لمن يأخذ بيديه، نحتاج لمن يجدد لنا ديننا، كشارب الخمر يستنكر مساعدته لتوهمه الاتزان، نستنكر كل جديد لتوهمنا الحق المطلق فيما ألِفناه، وسواء كان المجدد شخصا أو طائفة أو روحا تسري في الأمة بضرورة التجديد، سيقابل الجديد دوما بالاستنكار والرفض، لأن الجديد ليس إلا تغييرا في ما ألِفنا، وما ألِفنا يحوي كل القيم والمبادئ والشعارات التي أسكرتنا، لهذا سنقاتل بشراسة. سنتهم المجدد بشتى أنواع التهم، سنشكك في نسبه وأخلاقه، سنكذبه ونخونه، سنمارس عليه كل فعل دنيء، لكن هذا الوضع لن يستمر طويلا، فبعد حفلة الشتم الهستيرية هذه ستبدأ الأفكار والمفاهيم التي حاربناها في التغلغل شيئا فشيئا إلى ثقافتنا، وإلى أن تستقر تماما يكون قد مضى عليها زمنا كافيا لأن يجعلها تبلى وتهترئ، حينها فقط سنتقبل الأمر برحابة صدر، لأننا مجترون لا نستسيغ الأفكار والمفاهيم إلا بعد أن تبلى ويفعل فيها الزمن الأفاعيل. ماذا كنا نفعل طيلة المائة عام ما بين المجدد والمجدد؟ في البدء يقوم المجدد بإخراج الفكرة والمفهوم المرادين للعلن، فنعافهما أول الأمر ونستاء منهما ثم نتلقفمها بعد أن تبليا ونبدأ في مضغهما، وهكذا نورث عملية المضغ جيلاً بعد جيل، نستمر على هذا المنوال إلى أن يبعث الله من يعاف كل هذا المضغ للأفكار والمفاهيم البالية السائدة فيندفع مبتكرا الكثير من الأفكار والمفاهيم الثورية، لنعود من جديد لقتاله، لشتمه وتكفيره، مع هذا تجد أفكاره طريقها إلى ثقافتنا ولا تستقر فيها إلا وقد بليت لنبدأ من جديد في المضغ. ألم تسمع عن عالم جليل جلس في منتصف حلقة وقد أحاط به ألف طالب علم يسألونه ألف سؤال وفي كل مجال وهو يجيب بلا تريث؟! ألم تشاهد شيخا وقورا أو مثقفا مستنيرا يجلس خلف شاشة التلفاز ثم يبدأ في تلقي عشرات الأسئلة وفي كل المجالات فيجيب عليها كلها بلا تفكير؟! إنهم لا يمتلكون قدرات فائقة، كل ما في الأمر أن الأمر كله لا يحتاج منهم إلى تفكير إنما إلى اجترار المعلومات على عِلاتها. ألا ترى كيف تخرج آلاف الكتب سنويا وهي مطبوعة على أجود الأوراق وأفخر الأغلفة، محشوة بأفخم العبارات والجمل؟! ألا تراها تنتشر في كل مكان وعلى كل رصيف لكن لا جديد؟! ألا ترى كيف يتم تمجيد التلقين والنقل والنسخ والحفظ عن ظهر غيب؟! ألا ترى كيف نمتلك قدرات مذهلة في إعادة تكرير مآسي الأمس؟! ها هي أحقاد الماضي الدفين حية إلى اليوم، ألا ترانا سنورث أجيالنا القادمة ذات الفتن والمآسي التي ورثناها عن السابقين؟! ألا ترى كيف أن أول من يتصدى لمحاربة كل جديد هم أتباع الأئمة المُجددين؟! إنها ثقافة الاجترار، الأفعال الماضية فيها لا تمضي في حال سبيلها أبدا، إنها حاضرة إلى اليوم وستبقى للغد محشورة كالسردين داخل علب الواقع، ولهذا فهي المادة الوحيدة التي يمكن مضغها في كل وقت ومناسبة، المادة الوحيدة التي تحافظ على رونقها ولا تبلى أبدا، يمضغها الجاهل فيخلط معها صوتا رزينا ثم يبصقها، والحضور رغم أنه يحفظ ما تلقفه عن ظهر غيب إلا أنه يصفق بحرارة وحماس شديدين فلا تبحث عن العلة هنا، فالعلة أن الرأي في ثقافة الاجترار ليس إلا وعاء يملأ بالكثير من الرغي بلا وعي. إن الثقافة هي ما ننساه لا ما نتذكره، كما عرفها "توفيق الحكيم"، غير أننا لا ننسى! نجتر بحثا عن لذة اللقمة الأخيرة التي لا طعم فيها، رافضين طعم اللقمة الأولى، نبحث عن حلول لمشاكلنا عبر اجترار حلول الماضي فلا نجد في الماضي إلا مآسيه لنستدعيها فتزيد مشاكل حاضرنا التهابا، إن الخلل ليس في الماضي، ليس في الأفكار والمفاهيم، الخلل في الاجترار، في هذا الفعل الذي أصاب عقولنا بالكسل والخمول وتوهم الاتزان.