بكلمات الترحيب الدبلوماسي استقبلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في برلين. وتأتى تلك الزيارة في إطار جهود بريطانيا لإقناع قادة أوروبا بضرورة إصلاح الاتحاد الأوروبي وفقا للرؤية البريطانية، وسط مسعى خاص من كاميرون لكسب موافقة ميركل على مطالبه، معتبرا أن البديل سيكون استفتاء شعبيا لمعرفة رأي مواطنيه عما إذا كانوا يرغبون في البقاء داخل الاتحاد أو الخروج منه. وبعيدا عن كلمات الترحيب الدبلوماسي، كان رجال الأعمال في برلين الأكثر وضوحا وصراحة في مواقفهم، إذ طلبوا من ميركل عدم التفاوض مع رئيس الوزراء البريطاني، معربين عن "ذهولهم" من إقدام كاميرون على الاستفتاء، واعتبروها آلية بريطانية "لابتزاز" ليس فقط لألمانيا وإنما لكل أعضاء الاتحاد البالغ عددهم 28 دولة. وفي تصريح خاص لـ "الاقتصادية"، أعربت مصادر دبلوماسية بريطانية مطلعة رفضت الإفصاح عن اسمها لأنه غير مخول لها الإدلاء بتصريحات صحافية أن "موقف رجال الأعمال الألمان أضفى بظلال سلبية على توقعات الوفد البريطاني من المحادثات، مقدرين أنه يعكس رؤية تيار قوي داخل أروقة الحكومة الألمانية، يرفض تقديم أية تنازلات بشأن مطالب إصلاح التكتل، ولا شك أن هذا الموقف سيعزز بالتالي من قوة الوزراء في الحكومة البريطانية الراغبين في الخروج من الاتحاد الأوروبي". ويتهم القادة الأوروبيون الرافضون للاستفتاء لندن بأنها لم تطرح برنامجا محددا وتفصيليا للإصلاحات المطلوبة، وأن ما تطرحه لا يتعدى مطالب بتغيير القوانين التي يسمح بمقتضاها للمهاجرين بين بلدان الاتحاد بالحصول على إعانات اجتماعية من حكومات البلدان المهاجرين إليها. وبينما تعتبر المملكة المتحدة أكثر بلدان الاتحاد الأوروبي تضررا من هذه القوانين، يرى القادة الأوروبيون أن هذا الجانب الاجتماعي يساعد على إيجاد سوق حرة لليد العاملة، وأن إلغاء القوانين التي تمنح المهاجرين إعانات اجتماعية يعني تحول الاتحاد الأوروبي إلى نادي لكبار الرأسماليين، يسمح بمقتضاه لرؤوس الأموال بحرية الحركة، بينما يحرم من ذلك الطبقات الفقيرة عمليا، وهو ما سينزع أي دعم شعبي لفكرة أوروبا الموحدة. لكن الدكتور ريتشارد بيفنز أستاذ الاقتصاد الأوروبي في جامعة ليدز، يعتبر أن المطلب البريطاني على الرغم من أهميته، جزء من برنامج كاميرون لإصلاح الاتحاد الأوروبي، وأن جوهر مطالب حكومة المحافظين والتيارات السياسية الرافضة للاتحاد والمطالبة بالانسحاب منه، هو خشيتها من أن تشهد بلدانها مزيدا من الاندماج الاقتصادي الذي يمهد لتحول أوروبا على الأمد الطويل إلى دولة موحدة. وأضاف بيفنز لـ "الاقتصادية"، أن الحكومة البريطانية تريد أولا ضمان مصالح المملكة المتحدة، عبر حماية سوق المال في لندن، فإذا ما اتجهت بلدان منطقة اليورو لمزيد من الاندماج الاقتصادي، فإن هذا سينعكس سلبا على قيمة الاسترليني، وعلى وضع لندن كعاصمة للمال، والأهم أن ذلك سينعكس على الوزن النسبي للاقتصاد البريطاني في مواجهة اقتصاد منطقة اليورو الأكثر اندماجا مع بعضه البعض. واعتبر بيفنز أن هذه تداعيات مهمة تؤثر في القيمة الاستراتيجية لبريطانيا عالميا، ولهذا يطالب كاميرون بحماية سوق المال في لندن من تشريعات الاتحاد الاوروبي. وأشار بيفنز إلى أن كاميرون وحكومته يريدون إخراج المملكة المتحدة من أي تغييرات في وثيقة الاتحاد الأوروبي تجعل الاتحاد أوثق من أي وقت مضى، ومرجع ذلك هي رؤية المحافظين السياسية والثقافية بأن بريطانيا تختلف عن أوروبا، وتلك الرؤية يطرحها المحافظون لسبب بسيط، ومنطقي بالنسبة لأنصارهم، وهو أن ألمانيا ستكون الزعيم الاقتصادي والسياسي لأوروبا الموحدة وليس بريطانيا. وتعد زيارة كاميرون لألمانيا المحطة الأخيرة في جولة أوروبية بدأت بهولندا وفرنسا ومن ثم بولندا وألمانيا، وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء البريطاني استمع في المحطات الأربع إلى ترحيب دائم بفكرة إصلاح الاتحاد، إلا أن التصريحات التي صدرت من المسؤولين في البلدان التي قام بزيارتها، أوضحت تماما أن تصورات قادة تلك الدول للإصلاح تختلف عن رؤية كاميرون. ففي بولندا التي زارها قبل أن يتوجه لألمانيا أعلن المتحدث باسم مكتب رئيس الوزراء أن البلدين اتفقا على تعزيز البرلمانات الوطنية، وأن تتلقى البلدان خارج منطقة اليورو معاملة عادلة في حالة حدوث مزيد من التكامل بين بلدان اليورو. لكن المتحدث استخدم تعبيرات دبلوماسية في محاولة لإخفاء تباين موقف البلدين بشأن قضية المهاجرين والإعانات الاجتماعية مشيرا إلى أن البلدين قررا مواصلة النقاش بشأن حرية الحركة وأنظمة الرعايا الاجتماعية الوطنية في بلدان الاتحاد. وكان وزير الشؤون الأوروبية في الحكومة البولندية الأكثر مباشرة ووضوحا عندما أعلن أنه لا يمكن لكل عضو من أعضاء التكتل أن يأتي بقائمة خاصة من الإصلاحات التي تتفق مع مصالحه لتغيير الاتحاد الأوروبي، معتبرا أن هذا باختصار يعني "انهيار الاتحاد". وأوضح لـ "الاقتصادية"، إدوارد بوب الباحث في المعهد الدولي للدراسات الأوروبية، أننا الآن في مرحلة التفاوض بين لندن وعواصم الدول الأعضاء في الاتحاد، وأن كاميرون قدم بعض التنازلات بالفعل، فهو لم يعد يعارض بعض التشريعات الاجتماعية المنظمة لحقوق العمل الصادرة من الاتحاد مثل ألا يتجاوز الحد الأقصى لساعات العمل 48 ساعة أسبوعيا، وإلغاء القوانين التي تميز بين العمال بناء على الجنسية، لكنه أيضا لا يزال رافضا لفكرة قوات عسكرية أوروبية موحدة، أو أن تخضع الشرطة البريطانية لتشريعات بروكسل، ولهذا فإن طريق المفاوضات بين بريطانيا وأوروبا طويل وشاق. ويعتقد بوب أنه ليس بالضرورة أن يفلح الطرفان في الوصول إلى نقطة تلاقي، إذ يمكن أن يحدث الانفصال عمليا قبل أن يصوت الناخب البريطاني في الاستفتاء.