اقتادتني أمّي وأختاي: فاطمة وعائشة، إلى دار منعزلة في بيتنا الكبير، لا يستأنس فيها أحد. قالت أمّي: لن يدخل عليك أحدٌ غيرنا.. ستكون حبيسَ الدار حتى تَشفى. لحقتُ بها، أمسكت الباب بيدي اليسرى، وطرف ثوبها بالأخرى.. أبكي.. أرجو أختي بعيني اللتين لم تتجاوزا أربع سنوات. لكن ذلك لم يثنِ أمي عن قرارها. إمّا أن أختفي بمرضي هنا، أو أُأْخَذ عنوةً لجزيرة صغيرة من جزر المُحرق، مثل كلّ المصابين بمرض الجدري. قيل إنّها جزيرة يأتيها الناسُ ليتألموا، وليفقدوا جنّة الوجه فيها: العيون. شفيتُ أنا، وماتَ أخي محمد. ولدت في المنامة، سنة 1936م، في بيت أشبه بقلعة لها بابان: باب للنساء لا تدخل منه الرجال، وآخر للرجال تخشى النساء الدخول منه. في بيتنا بئران، وجدرانه بيضاء من الداخل تزينه مرايا مستطيلة، كان أبي يجلبها من الهند، عليها رسومات زاهية، وأسماء أهل البيت: الإمام علي، والحسن، والحسين، وفاطمة، ونوافذه منقشة، وزجاجها ملون، عليه رسومات. وبوابة البيت كبيرة واسعة، في وسطها باب صغير لدخول الأفراد فقط، يسمونه فرخة، لصغره. هنا في حيّ الفاضل حتى أكثر الإصابات والحوادث يهندسها البحر. أتنفسُ البحر... نرجع إلى صدر الحيّ بنشوة العائدين من الغابة، نحمل صيداً، وعرقاً، وحكايات. نلتقي بعربة الأيسكريم الوحيدة التي تجوب الحيّ كلّ يوم في هذا الصيف. عربة خشبية، يجرها رجل، ويتوسطها برميل به الأيسكريم، وحوله ثلج كثير. لا ينافسه غير بائع الخضروات على حماره البائس. لم يسلم هذا الحمار من مداعباتنا. نقدم لسائقه الخبز اليابس، ونوى التمر، فيعطينا جملة من الخضروات الرطبة. في حيّنا الجميل لم نكنْ نلتفتُ إلى غير الحبّ. نلعب بفطرة الأطفال، فطرة الإنسان. كان ديننا الحبّ. في الحيّ جالية يهودية كبيرة، تعيش مع أهالي الحيّ دون حساسيات. كنّا نلعبُ مع أطفالهم، وندخل بيوتهم، ونحضر احتفالاتهم الدينية. لكننا لم نكن ندخل بيوتهم يوم السبت لأنّهم يصومون فيه. ولو دخلنا لا يحدث شيء. كانت بعض بيوتهم ملاصقة للمساجد، ولم يكن ثمّة حرج. ندخل معابد الهنود البونيان، ونرى إلى عيون مائهم أسفل الأرض. كنّا ننزل للماء بسلم خشبي. وفي عيد الألوان نراهم يتقاذفون بها، فنفرح لذلك، على الرغم من أنهم كانوا يميّزون بيننا وبينهم، فلا يقذفوننا بألوانهم. ولم نكن نغضب لو فعلوا.. كم تمنينا لو دخلنا ألوانهم. لم تكن الرسومات على الجدران تُغضب أبي، بل كان يقدر ذلك كثيراً، ويشجعنا على الرسم. ويبدو لي أنّ أبي لن يكون كذلك لولا تعدد زياراته للهند، حيث اللقاء بالحضارات، والجمال، والشعر، والطبيعة. يستقر شهوراً في بونا بالهند، ويرسل البضائع لأخي أحمد في البحرين فيهتم بأمورها، ويدير شؤون الدكان. أما حبيبتي أمي، فقد كانت بارعة في خياطة الكورال، وأنواع أخرى من الخياطة. وكثيراً ما كان بيتنا مركزاً وملتقىً نسائياً تُمارس فيه الكثير من المهن التي تعتمد على فن، وذوق نسائي. وعندما يعود أبي من الهند يحضر معه رسومات لطيور جميلة، وبعض أوراق عرض لبعض الرسومات المزخرفة. كنتُ أستغل هذه الرسومات بوضع ورق شفاف عليها، ثمّ أطبعها، فتشتريها النساء من عندي، يطبعنها على بعض أثاث البيت، ثم يطرزنها بخيوط ملونة. كانت رسوماتي هذه مصدر رزق لي، طالما أحببته، فليس ل مُلاهُو حقّ فيه؟! أثرّ الفوتوغرافي يوسف قاسم ابن حيّنا فيّ كثيراً. كنتُ أراه يصنع تماثيل من الطين، ثشبه تماثيل غرناطة، لمسرحية عبد الرحمن الناصر التي أقيمت في النادي الأهلي حينها. كنّا ندخل بيت يوسف قاسم لنشاهده وهو يمارس عمله الفنّي كل يوم تقريباً. لقد حبّب إليّ الفنون أكثر، والتصوير. في المدرسة أسس مُدرسٌ مَصري يدعى سامري أُسرةً صغيرة، عُرِفَتْ باسم أسرة التصوير الفوتوغرافي كنتُ من أوائل المنتمين إليها. إنّها فرصتي لأدخل هذا العالم الذي أرى صوره كلّ يوم في السوق فتذهلني. ظلّ اقتناء كاميرا خاصة حلماً يراودني. كيف أكون قريبا من الصورة ولا ألمس الكاميرا؟ كان ذلك مؤلماً حقاً، مثل محبّ وُلد في تجربة ممنوعة. لذا فعّلت تجارتي الفنية مع نساء الحيّ، فكنتُ أشتري الورق الشفّاف، وأطبع عليه رسومات هندية كانت تأتي ملفوفة على طيّات القماش الهندي، أو من مصادر أخرى، بعد ذلك أبيعها على النساء اللواتي ينسجن الزخرفة والزهور على التكايا والمساند القطنية، التي توضع في مجالس النساء وفرشات العرس. هذا العمل أمّن لي بعض الأموال. كما اننا كنا عائلة ميسورة. كان يوماً مميزاً ذلك الذي حملت أموالي باتجاه متجر أشرف بالمنامة، لأشتري أوّل كاميرا لي، من نوع كودك كنتُ حينها في الصف السادس الابتدائي. حملتُ الكاميرا فرحاً مسرعاً باتجاه الحيّ، أصوّر بها الناس، والأطفال، والنشاط اليومي فيه، ولم أترك شيئا لم أصوب عدستي الصغيرة عليه. كان الناس يراقبونني مندهشين، لقلّة عدد الكاميرات في حيَ الفاضل. ماذا يفعل ولد زباري؟ لم يدمْ عريش التصوير بالمدرسة كثيراً. ففي إحدى صباحات المدرسة انتشر خبر أزعج أعضاء أسرة التصوير. وجد المدرسون باب العريش مكسوراً، ولم يبقِ اللصوص شيئاً في الداخل غير حبل تجفيف الصور!! أسرة تصوير بلا كاميرا وبلا مكان!! وعندما التقيت الأستاذ السامري في الستينيات وكنت حينها مدرس في المدرسة ذاتها- ذكّرته بحادثة سرقة عريش التصوير فضحك. إنّه الفجر يتنفس على حيّ الفاضل بدءاً من البحر. أصعد دراجتي الهوائية، وفي كتفي كاميرتي، باتجاه عين عذاري.. في الطريق تحرسني النخيل، ويراقبني ماء عذاري حتى أصل ينبوعها.. هنا عليّ أن أحترم كل هذا السكون.. النخيلُ يلفّ العين من كلّ الجهات.. ضباب صباحي هش عند أعناق النخيل، كأنّه يسرّ لها خبر الماء، والعصافير. من أين يأتي كلّ هذا الماء؟ من أين يأتي كلّ هذا الجنون؟ أنزل الماء، أسبح فيه حتى ارتفاع قرص الشمس. أخذت هذه المادة بتصرف من كتاب: سيرة الصورة في البحرين من 1900 إلى 2000 للكاتب حسين المحروس.