النكتة لون من ألوان السخرية، مجهولة النسب لا يعرف قائلها، لكن مريديها هم كل من يروونها ويتداولونها ويأنسون بها. هي نص مبدع قابل للتمدد والإضافة، نص شفاهي يقاوم التدوين، وتدوينها أسر لها، ولكن حتى بعد التدوين تـتمرد لتأخذ روح البيئة المعنية بالتداول. النكتة نص شعبي بامتياز يتداولها الجميع سواء النخب أو عامة الناس، لكنها نص نترفع عنها ولا نرويها إلا في مجالسنا. هي نص ساخر نقدي لا يستسلم للقولبة إلا بالقدر الذي يسمح لها بترك بصمتها على بيئتها. عرف التراث العربي النكتة، وظهـر الكثير من الظرفاء، ودونت كتب الأدب هذه الطرائف لتنتقل من النكتة الساخرة إلى نصوص سائرة بين الناس، لكن لها هيبة النص المكتوب، ننظر إليها من بعيد. لقد فقدت روحها الساخرة الناقدة لأن بيئتها التداولية لم تعد حاضنة، وأصبحت كتب التراث هي الحاضن والحارس على عدم تمددها. تحضر النكتة لأغراض نقدية في الغالب، ساخرة حيث يكون للسخرية معنى، وناقدة حيث يكون للنقد فائدة ترجى، وفاكهة حيث يكون لها فضل تغذية البسمة بروح لا مبالية بأزماتها. النكتـة نص جماعي يولد بطريقة عفوية أو ردة فعل تجاه موقف أو حالة، لتدخل حيز التداول، ويساعد على تداولها ظروف البيئة الحاضنة، فكلما كان المجتمع في مظهره مناقضا لحقيقته الداخلية، حضرت النكتة بروحها المرحة الساخرة. وتـتدرج في موضوعاتها من الشخصي إلى الاجتماعي حتى تصل للموضوع السياسي وهو أكثرها خضوعا للنقد. الاستغراق في النكتة بمعناها الشخصي تعني نزعة ساخرة تنشد الترويح ونشر روح الدعابة، قد تعتمد في تكوينها على الملامح الشخصية أو طريقة الكلام، وطرائق السلوك بشكل عام. أما النزعة الاجتماعية في النكتة فتعتمد على المفارقات اللغوية بين المجتمعات والاختلافات الثقافية، والمزاج العام الذي يشكل السمة العامة للمجتمعات، فالمصري يختلف عن السوداني، عن العراقي، عن السعودي، وهكذا تـتكون النكتة بناء على هذه الفروق. وقد تنتقل ذات النكة من بيئة اجتماعية إلى أخرى بتغيير السمات العامة لها لتلائم البيئة المستقبلة لها. أما النكتة ذات المنحى السياسي فهي تعبير عن سخط ما، لكن بروح ساخرة، لا يستطيع السياسي إيقاف تمددها، وما عليه إلا أن يحنى رأسه لتمر، حيث لا يمكنه القبض على أحد متلبسا بها، إذ لا صاحب لها إلا الموقف الذي استدعى انتشارها. ولا يستبعد أن يرويها السياسي عن غيره مع أنه المعنى بها، وهي طريقة للعودة إلى صفوف الجماهير الذين يروجون للنكتة. ولعل ما روي عن جمال عبد الناصر أنه كان يسأل عن آخر نكتة سياسية في مجتمعه يؤكد هذا المنحى من التأثير من ناحية، ومن متابعة السياسي لهذا الاتجاه في التعبير الشعبي. النكتة بمعناها السياسي هي سلاح الضعفاء، على قاعدة وذلك أضعف الإيمان، وخاصة عندما تغيب الحريات، ويزداد الاستبداد، ويغيب القانون، ولا يصبح للتعبير عن الرأي أي مجال. هنا تظهـر النكتة، ويزداد أوارها إذ هي المعبر عن الضمير الجمعي دون أن يحمل أحد تبعاتها. ورغم أن النكتة حاضرة في مجتمعنا، فإن المراقبين دهشوا لثورة النكتة في المملكة قبل أربـع سنوات تقريبا، عندما خصصت إحدى شركات الاتصالات شهـرا للرسائل (msm) مجانا، فانهمرت سخرية المجتمع بشكل غير مسبوق، سخرية من نفسه، سخرية من أوضاعه المعيشية، سخرية من ضبابية مستقبله، وأبلغ ما تم رصده آخر نكتة على لسان شركة الاتصالات نفسها، وهي نكتة لا يمكن روايتها، لكنها تعبير عن مفارقة العلاقة بين المجتمع ومؤسساته. النكتة تعبير في بعض مستوياتها عن سخط اجتماعي من أوضاع اقتصادية، أو سوء خدمات، أو فساد منتشر. فهي لا تهادن، ولا تتراجع، وتساوم على حق يـراه المجتمع، محتمية بسرية منشئها، وبكلية تداولها من أطايف المجتمع. وليست النكتة دائما على حق، فهي تنطوي أحيانا على نزعة عنصرية بين المجتمعات، وأحيانا بين أبناء المجتمع الواحد، فتخرج من كونها مكونا ساخرا يدعو للابتسام، إلى تشكيل موقف تجاه بعض الفئات الاجتماعية. وهذا مرفوض من حيث كونها تغذي ثقافة الاستعلاء، وتوسع مساحة من التباعد والتفكك الاجتماعي. لقد وجدت النكتة في وسائل التواصل الحديثة مسارا واسعا للانتشار، فما كان يأخذ وقتا للوصول للناس بات ينتشر بسرعة انتشار النار في الهشيم، وبات التأثير أسرع وأبلغ في تأكيد سلطة النكتة على ما سواها من وسائل التعبير المقيدة.