د. جمال محمد عطا * آه.. ما أقسى الجدار ندما ينهض في وجه الشروق ربما ننفق كل العمر – كي نثقب ثغرة ليمر النور للأجيال مرة! ..................................... ربما لو لم يكن هذا الجدار ما عرفنا قيمة الضوء الطليق. (أمل دنقل / ديوان البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) برحيل الشاعر أمل دنقل في 21 مايو 1983 أسدل الستار على مشروع شعري كان له من الفرادة ما يميز صاحبه عن غيره من مجايليه ولاحقيه رؤية وتشكيلا، وهو مشروع، وإن كان قد اكتمل برحيل صاحبه، إلا أنه مازال منفتحا على مصراعيه، فبعد أكثر من ربع قرن على رحيله، لم يستطع شعراء التجربة الذهنية المجردة - وعلى الرغم من استحداثهم لأشكال جمالية جديدة ظنوها قادرة على إحداث تغير في الذائقة العربية وبالتالي إحداث تغير اجتماعي - بلورة مشروع شعري محدد الملامح والأدوات، ولم يتمكن الواحد منهم من امتلاك رؤية جمالية تمكنه من إدراك الواقع وإدراك تناقضاته جماليا، وفي الوقت نفسه عجزت تجاربهم عن التواصل مع الجمهور أو استقطاب محبي الشعر. ربما يلح في ذهن المهتمين بشعر أمل دنقل والمتابعين لحركة الشعر سؤال مفاده: - لماذا يزداد شعر أمل دنقل توهجا وتألقا وبريقا ولمعانا في الوقت الذي تزداد فيه أزمة الذات العربية، بالرغم من تعدد الأصوات الشعرية، وتعدد تجاربها وأشكالها في النصف الثاني من القرن الأخير؟ وعلى الرغم من إحجام القارئ العربي عن تذوق الشعر العربي وملاحقة إنتاجه؟ ربما تحتاج إجابة السؤال إلى دراسات منها ما يتعلق بشعر أمل، ومنها ما يتعلق بالتجارب الشعرية وأشكالها، ومنها ما يتعلق بذائقة الجمهور العربي ومشكلاته، ولكن حسبي هنا أن استخلص دلالات عدة على هامش السؤال المطروح، أراها لا تقل أهمية عنه. أول هذه الدلالات: - أن السؤال المطروح يمثل صك البراءة لأمل ولشعره من التهمة التي نسبها إليه شعراء السبعينيات وإدوار الخراط ممن تبنوا مفاهيم الحداثة ونظروا لها، حين زعموا أن شعر أمل شعر ملتزم فهو مجرد إعادة لما هو أيديولوجي وما هو سائد. وثاني هذه الدلالات :- عدم التعويل على النظرة التي ترى في الأعمال الأدبية تجسيداً / انعكاسا للواقع والعصر الذي كتبت فيه، فهذه النظرة لا ترى في الجمالي إلا وثيقة تاريخية أو نفسية أو اجتماعية، وهي تعجز– وربما تخجل- عن تفسير السؤال المطروح، ما يتطلب منا العناية بالحقل الجمالي في الشعر (التشكيل) خاصة في علاقته بقضايا الواقع واحتياجاته الجمالية، وهو الحقل الذي أعتقد أنه مازال بكرا وخصبا و واعدا في شعر أمل دنقل. ثالث هذه الدلالات: - استفحال الوعي الزائف عند الذات العربية وغرقها في المستنقع الأيديولوجي بعد أن تم ترويضها وتدجينها، وتحولت في حوزة النظام إلى تابع مُرَوَض / بنية منْتَجة تحفظ له الاستمرارية والثبات، أو بمعنى آخر أصبحت دمية تعمل وفق ما يبتغيه الصانع لها، وتعَوَدت على ممارسة وظيفتها. (1) تقفز الأســـواق يومين / وتعتاد على "النقد" الجديد تشتكى الأضلاع يومين / وتعتاد على السـوط الجديد يسكت المذيــاع يومين / ويعتاد على الصوت الجديد (2) والطيور التي أقعدتها مخالطة الناس/ مرت طمأنينة العيش فوق مناسرها.. فانتخت وبأعينها.. فارتخت وارتضت أن تقأقئ حول الطعام المتاح ما الذي يتبقى لها .. غير سكينة الذبح.. غير انتظار النهاية. إن اليد الآدمية.. واهبة القمح تعرف كيف تسن السلاح. إن ما يعطي شعر أمل صفة الاستمرارية والديمومة واحتواء الواقع هو (بلاغة التشكيل والرؤية) تلك التي تسعى لإعادة صياغة حقيقة الذات العربية (أزمتها و طموحاتها وحاجاتها الجمالية) بعد أن شكلتها (بلاغة الزيف / بلاغة الاستراتيجي)، فهي رؤية تسعى لقراءة الواقع والعالم، وفهم الذات في علاقتها بالواقع المُعاش ولحظتها الراهنة بمنأى عما هو أيديولوجي زائف. هذه الرؤية هي ذاتها التي وَقَتْ شعر أمل من التنميط والنمذجة ومنحته مذاقا خاصا ميزه عن غيره من الشعراء. في أطروحتي لرسالة الماجستير التي كانت بعنوان "تشكيل صورة الموت في شعر أمل دنقل" تحت إشراف أستاذي الدكتور سيد البحراوي (جامعة القاهرة) انتهيت إلى نتائج عدة أثبتها في نهاية فصول الدراسة غير أن النتيجة المهمة التي خلصت إليها وأعدها خصيصة ميزت رؤية أمل للموت عن رؤية غيره من الشعراء تتمثل في أن معالجته لقضية الموت والمصير الإنساني لم تقف عند الحد الذي يهدف إلى التعرف على الموت (ماهيته – قانونه – حجمه) وخاصة في معالجتها للموت الأيديولوجي والشعور العدمي وإنما بدأت منه (أي: الموت) لتفسر لنا مفهوم ومعنى الحياة ومقوماتها وغاياتها على النحو الذي يعرف الشيء بالضد، فلقد امتدت رؤية أمل لتشمل نطاقات أوسع ترتبط بالواقع السياسي والاجتماعي. واستطاعت هذه الرؤية أن تكشف لنا عن مواطن العفونة والجمال، القوة والضعف في الذات البشرية وفي مجتمعها، من هنا يمكن القول إن فلسفة دنقل للموت هي في حقيقتها فلسفة في الحياة أكثر منها للموت، وإن تحديقه في الموت إنما هو تحديق في الحياة ذاتها، هذا التحديق الذي كشف لنا عن الموت واللاوجود الفعلي للذات العربية وعن مدى الخلل الاجتماعي والسياسي وعن حالات الاغتراب والحزن والهم، وأخيراً الشعور العدمي ذلك الذي بدأ منه أمل دنقل بهدف الكشف عن الجانب الآخر للحياة المناقضة لهذا الشعور ليجعل منه همزة الوصل في معاودة الاتصال بمصادر الحياة المظلمة. * أستاذ النقد الأدبي المساعد جامعة الملك خالد