من الصعب أن تعيش على هامش الحياة، ومن الأسى أن تجد أمة عالة على العالم، ولا تشكل رقماً في المعادلة الدولية.. حقا إنها كارثة أن يكثر المستهلون ويتلاشى المنتجون، ويملك القوت العدو، ويبيع السلاح الحاقد، ويصنع الدواء من لا يرقب في المريض إلا ولا ذمة. إنها «ثقافة الاستهلاك» التي بدأت تتفشى في كثير من المجتمعات، التي ابتاعتها من غيرها المنتجة نظير حريتها وكرامتها وسيادتها، ثقافة الدون من الحياة، وإيثار الاسترخاء على الجد وعلو الهمة، وإحلال مظهر الأجساد المترهلة عوضا عن الرشاقة والفتوة. إن «ثقافة الاستهلاك» ثقافة اتكالية انهزامية تبتلع الثروة، وتفقد الحس بقيمة الأشياء، وتجعل المرء ينشغل بالمظهر عن الجوهر، عندما يصير الإنفاق على الكماليات هدفاً ورسالة ومظهراً اجتماعياً يبذل فيه الغالي والنفيس؛ بل ربما تصل هذه الثقافة إلى حد الهوس أو المرض أو تدفع صاحبها لأن يمد يده إلى الحرام، ليشبع نهمه ويرضي غريزته. ويرى المحللون أن استهلاك الأشياء بات أسهل وأقرب، وأن الاستهلاك المفرط يخمد العقل ويفقده القدرة على التفاعل والتفكير والتحليل، حيث يتعامل الذهن مع صنوف المنتجات باستسلام، بخلاف الإنتاج الذي يتطلب اتخاذ القرارات والمفاضلة بين الاختيارات والتجريب والمحاولة بما يقتضيه النجاح والفشل، وهذا من شأنه أن يفجر الطاقات ويثري الإبداعات. لسنا في حاجة لأن ندلل على أن الإسلام اعتبر الاستهلاك وسيلة وليس غاية، وإنما وقفت الشريعة الغراء موقف الخصم مع الاستهلاك المذموم المعني بالكماليات والإغراق في الملذات حتى صار الغاية والهدف، خاصة وأن جشع الإنسان لا يرتوي. إن القيم الإسلامية الناصعة كفيلة بأن تقضي على أزمات العصر، التي أحدثها العالم الاستهلاكي الأجوف من تآكل للموارد الطبيعية وارتفاع معدلات التلوث البيئي ومشاكل التخلص من النفايات. هذا فضلا عن تبدل القيم الاجتماعية وإزاحة الفضائل أمام طوفان الغرائز، وما يتبعه ذلك من أمراض عضوية ونفسية. رغم تعدد النظريات التي تصدت بالحلول لحمى الاستهلاك الترفي، إلا أنها تكاد تتفق على دور التوجيه والتثقيف الفكري؛ لتعديل سلوكيات المجتمعات وضبط تصرفاتها نحو الاستهلاك المتهور، والتفريق بين حاجاتنا الحقيقية من الوهمية. إن تعديل الدافع والقناعة يكاد يكون العامل الأهم في التغلب على شره الاستهلاك.. وبالطبع لا تجد أحكم ولا أنصع من التعاليم الإسلامية في ترسيخ قناعة تامة بالترشيد في أمورنا كلها، وتفعيل دور سلم الأولويات بتقديم الأهم على المهم، والنظر للاستهلاك على أنه عبادة وطاعة وغريزة فطرية إذا اتسمت بالانضباط دون إفراط ولا تفريط. والتراث الإسلامي ذاخر بالكثير من التوجيهات النبيلة، فضلا عن السلوك الرائع لسلفنا الصالح، الذي يعد مفخرة على كل الأصعدة سواء الإيمانية أو التعبدية أو التربوية أو الاقتصادية.. مما يجعلنا لا نتردد لحظة في الإشادة بدور قيمنا الإسلامية النبيلة في تنظيم مسيرتنا التنموية، واسترداد دورنا الحضاري الذي تراجع إلى حد كبير.