فجيعة حادثة «القديح» الإجرامية كانت علامةً وسمةً للمعنى الذي وصل إليه الفكر المتطرف الإرهابي، ذلك أن الأدوات التي استخدمها شديدة الخطورة، إذ تتجاوز السلوك الإرهابي المعروف لدى تنظيم القاعدة منذ زمن، استهداف المنشآت المدنية، وبيوت الله، والأماكن الشعبية والدكاكين والطرقات، يعني أن الفكرة المطلوبة تتمثل في تفتيت مفهوم الدولة وتجاوزه. وظيفة أي خطابٍ آيديولوجي متطرف أن يتجاوز ويلتفّ على مؤسسات الدولة، وكل إضعاف لتلك المؤسسات يعني الانتعاش للمنظّمات الإرهابية، ولأن إيران بالمعنى السياسي بعيدة عن الأنظمة الدولية ومراعاتها، ونشأ نظامها الإسلامي الحالي ضمن سياقات الأصولية وأنماطها والاحتجاج والتفسير المتعسّف لفكرة «الدين والدولة» فقد صعّدت من عمل ونفَس ولياقة الجماعات الإرهابية بالعالم، والحديث عن إيواء إيران لأفراد من «القاعدة»، والغموض في الدعم لتنظيم داعش، والوضوح المطلق في دعم حركة الإخوان المسلمين وجماعات إرهاب الأخرى التي تندرج ضمن دعاية «المقاومة» متوفرٌ ومطروح بالدليل والبرهان. إنها الحيلة الأخيرة لهذه التنظيمات أن تؤسس لإحراجات ميدانية لمؤسسات الدولة. من الطبيعي أن يكون لأي دولةٍ معانٍ وتعاليم، على النحو الذي نادى به روسو بـ«الدين المدني»، أو بالتعاليم التي اعتبرها توماس هوبز قبله مهمة السلطان في فرضها وضبطها وتنظيمها ضمن مؤسسة الدولة، غير أن الخطورة ليست في المعنى الديني المضبوط والمتوّج بتعميد الدولة والمؤسس ضمن مساراتٍ مؤسسية يصعب اختراقها أو توظيفها ضد الواقع، بل الخطورة في انفلات الخطاب. من هنا يكون الضبط للسيلان الذي يتدفّق في الخطابات الدينية هو الشرط لحماية مؤسسات الدولة من الخطابات المنشقّة أو الملتفّة على ذلك الخطاب المضبوط، وعليه فإن الوفرة الدعوية، أو التخمة الوعظية، أو الطفرة في «الفتيا» في وسائل الإعلام وأنماط التعبير يجب أن تضبط ضمن مفهوم «الدولة» بالمعنى الفلسفي والمؤسسي والمنهجي، وحسنًا تحدّث وزير الإعلام السعودي الدكتور عادل الطريفي لجريدة «المدينة» عن ضرورة إغلاق وضبط وتنظيم القنوات الدينية العربية ضمن مقترح دولة الإمارات، الذي اعتمده وزراء الإعلام العرب في اجتماعهم الأخير، لأن هذه المهمّة هي التي تحمي الأجهزة والمؤسسات من القوارض المختبئة التي تنهش تدريجيًا، ودون كلل أو ملل المؤسسات وهي «عصب الدولة». لقد كان الخطاب المتطرّف المنشقّ عن الخطاب الديني المضبوط مؤسسيًا مؤرّقًا للسعودية منذ التأسيس، ويذكر المؤرخون كيف كان الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود يحارب فكريًا وعسكريًا الجماعات التي عادتْه بسبب بدئه وتدشينه للدولة السعودية الحديثة. يذكر ذلك بالتفصيل الباحث سليمان الحديثي في كتابٍ مميز خصّصه عن عبد الله أخي الملك المؤسس وعنونه بـ«الأمير عبد الله بن عبد الرحمن آل سعود - سيرة تاريخية وثائقية» وفي فصلٍ خاص عن معركة السبلة التي نشبت في 30 مارس 1929 نقل عن فيلبي مشاركة الملك عبد العزيز وأبنائه وإخوانه فيها لتتبع العصاة وتأديبهم في بعض القرى والهجر، وكان لأخي الملك دوره في إنجاح المعركة وإتمامها وتلقّي المؤسس البيعة مجددًا ممن عدل عن عصيانه وانشقاقه، وقد بلغ خطر هذه الجماعة المهددة لمفهوم الدولة الوليد أن اجتمع الملك مع فريقه المقرّب فيما عرف بـ«مؤتمر الدوادمي» وكان من مقررات ذلك المؤتمر: «معاقبة من أخلّوا بالأمن». طوال تلك العقود كانت القوارض الإرهابية تجدد دماءها بنفس الأسلوب وإن اختلفت الاستراتيجيات والتسميات والآيديولوجيات.. احتلّ الحرم في أواخر السبعينات الميلادية وتم تفخيخ المصاحف في مكة والمدينة في 2003 وقبل أسبوع يتم تفجير مسجدٍ للمصلّين في صلاة الجمعة ببلدةٍ آمنة مسجدها يحمل اسم الخليفة الإمام علي بن أبي طالب. المعنى لم يعد دينيًا، وفكرة «الإسلام دين ودولة» ليست إلا سياجًا وغطاءً للهدف الدموي الذي يراد له أن يرتكب باسم الإسلام لضرب الدولة ومؤسساتها ومقدّراتها. بعد كل تلك العقود يهبّ الملك السابع للبلاد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لتجديد حماية الدولة ومؤسساتها، وهو مشوار طويل بدأه والده، مهمّته الأساسية: «حماية المؤسسات، الضرب بيدٍ من حديد على من أخلّ بالأمن، ملاحقة ومحاكمة المحرّضين والمتعاطفين». بين مؤتمر الدوادمي المنعقد في 8 يوليو 1929 وبرقية الملك سلمان قرابة القرن من الزمان، غير أن الإرهاب لم ينسَ الانتقام، والدولة أيضًا لم تهمل الواقع ولم تفرّط في الكيان، ولم تسلّم المجتمع إلى مدافع العنف وقنابل الاستئصال. ويدلّ على المعنى العميق في إدارة مكافحة الإرهاب والتطرف العبارات التي اختارها الملك بدقّة في برقيته لولي العهد الأمير محمد بن نايف: «إن كل مشارك أو مخطط أو داعم أو متعاون أو متعاطف مع هذه الجريمة البشعة سيكون عرضة للمحاسبة والمحاكمة وسينال عقابه الذي يستحقه ولن تتوقف جهودنا يومًا عن محاربة الفكر الضال ومواجهة الإرهابيين والقضاء على بؤرهم». فالجريمة توافرت فيها عوامل: التحريض (الفكري)، والدعم (اللوجيستي)، والتنفيذ (الميداني)، وعليه فإن الحساب يشمل كل من كان سببًا في هذه «الثمرة» وأصلها بذرة رعيت ثم زرعت وسقيت ومن ثم ترعرعت حتى أثمرت مرًا علقمًا سامًا فجّر المساجد والأشلاء. يذكر يوسف ياسين في كتابه «يوميات الدبدبة - أول مذكرات يومية في حروب الملك عبد العزيز لتوحيد المملكة» وصفًا دقيقًا لجهد المؤسس في ضبط البلاد من وحي معركة «النبقيّة»: «ومتى انعكست أشعة الشمس عن السيوف رأت عينك منها البرق الخاطف. كان الملك يشير بعصاه إلى كل من يمرّ أمامه مثنيًا، ولكنه كان ذلك اليوم كثير الحزن عظيم الشجن، ولما سمع أصداء الرصاص أخذ يردد حسبنا الله ونعم الوكيل، يقول هذا وهو يستعرض جنده الذين التحقوا بجلالته»، لقد كان تأسيس الدولة مرهقًا، خاطر بناة هذه البلاد بأجسادهم وصحّتهم، وحين وصف المؤرخ العلاّمة محمد العبودي لقاءه بالملك عبد العزيز كتب في مذكراته «سبعون عامًا في الوظيفة الحكومية» قائلاً: «إنني الآن أتمثل ذلك في نفسي، وأنا أمام ابن سعود، بطل الأقاصيص والأساطير، إنني أنظر إليه أكرر النظر وأفحصه فألمح بل أجد واضحًا أثر ذلك كله في نفسه، أجد أثر معارك الحوادث وأحمال السنين قد بدت على كيانه». من مؤتمر الدوادمي، إلى حزم الملك في برقية «القديح» يستمر مسار التأديب والتنظيف والتحصين للمجتمع من دواخل الإرهاب. تستمر المسيرة مع الملك سلمان بن عبد العزيز الذي يخوض حربًا قويّة لا هوادة فيها ضد الإرهاب في الداخل والخارج، وتشارك قواته في التحالف الدولي ضد «داعش» في العراق وسوريا، ويقود بنفسه التحالف العربي ضد المتمرّدين في اليمن، وما أشبه جيش سلمان بجيش أبيه ولسان الحال قول بشّار: كأن مُثار النقع فوق رؤوسهم وأسيافنا ليلٌ تهاوت كواكبه وجيش كجنح الليل يرجف بالحصى وبالشول والخطي حمرٌ ثعالبهْ