النثر الفني أحد الأشكال الأدبية التي تميزت بها الثقافة العربية على مر تاريخها، وقد شهد ازدهاراً كبيراً في النصف الأول من القرن العشرين، لكنه غاب بعد ذلك عن المشهد الثقافي. يشير الشاعر عبدالمنعم رمضان إلى أن النثر الفني دخل حالياً إلى فنون أخرى مثل الرواية والشعر، وأكاد أقول إن آخر من قرأت لهم ذلك النوع الأدبي كان يحيى حقي وزكي نجيب محمود، وفي تصوري أن النثر الفني تراجع بشدة لأسباب عدة: أولها: سلطة الإعلام المكتوب والمرئي وتفشي هذه السلطة، كذلك الصحافة التي لا تحب مثل هذا النثر الفني، وتراجع المجلات الأدبية والثقافية، وربما تكون الاضطرابات السياسية وراء ذلك، وأيضاً شيوع الرواية، فأصبح كتاب النثر لا ينصرفون إلى كتابته في لوحة قلمية، فتسلل إلى الشعر وتسلل إلى الرواية فلم يعد فناً مستقلاً. ويرى رمضان أن النثر العربي في مدة ازدهاره القديمة، كان الشعر تحت الضوء لأنه كان مراقباً ولا يقبل منه المحظور، بينما كان النثر في غرف مظلمة يتمتع بحريات كثيرة، أكسبته قيمة أفادتنا كثيراً. الآن النثر تحت الضوء، والشعر في الغرفة المظلمة، فعلى الشعراء أن يعملوا على إجادته، وهذه فرصة ذهبية لهم. الأيام دول فمرة يعلو النثر ومرة يعلو الشعر - كما يقول رمضان - وكل هذا في مصلحة عملية الإبداع، فهذا يحدث نوعاً من التراكم الجميل والخلاق، بشرط أن يعي الأدباء ما تحمله اللحظة التي يعيشون فيها حتى يحملوا بذهنية تربط الأدب بما حوله في حركة تواصلية، نحن نعيش الآن عصر التجريب بامتياز وهو عصر لا بد أن يعي الكاتب متطلباته. ويرجع الناقد د. عبدالمنعم تليمة تراجع النثر الفني إلى أسباب عدة، أولها: بروز العلم التجريبي ما دعا كتاب النثر للتخصص، فبرز كتاب الرواية ونبغوا فيها، وكتاب المسرحيات، وكتاب الدراما التلفزيونية، وحل محل كتاب النثر الفني من الجيل الأول، كتابة المقالات في الصحف مثل النقد الأدبي والنقد الفني التشكيلي والسينمائي. ويضيف: في تاريخنا الأدبي في القرن الثامن عشر كانت هناك كتابة عامة، وفي القرن العشرين كان هناك التخصص أيضاً. فقد ورثت الرواية السيرة الشعبية، وهناك مقالات متخصصة عند محمد مندور في الإصلاح الاجتماعي، وطه حسين كان يكتب مقالاً ثابتاً في جريدة السياسة الأسبوعية، ثم أصبح رئيساً لتحرير "الجمهورية"، وكان يكتب مقالاً يومياً في النقد الاجتماعي والثقافي. جبران خليل جبران يأتي في مقدمة من كتب الشعر المنثور، ومن الجيل التالي له علي أحمد باكثير ومحمد فريد أبو حديد، هؤلاء كتبوا أنواعاً مختلفة من النثر الفني مغلفة ببعد تاريخي. وما بين المنفلوطي ويوسف إدريس سنوات قليلة جداً، لكن اللغة الفنية قفزت قفزة عالية، فجماليات المنفلوطي في اللغة بها رنين لغوي موروث، وعند يوسف إدريس ترى العبارة من بطن الحياة اليومية، وهنا تلمع فيها الفكرة، ومعه تحققت كلمات الجاحظ وعبد القاهر الجرجاني. فالمعاني مطروحة في الطريق، كان الجرجاني يقول إن الكتابة بحث عن معنى المعنى، وهذا ما عني به الكتاب بعد ذلك. فالمسألة مرتبطة بتطور النوع الأدبي وتحولات المدارس الفنية. أما الكاتبة د. عزة بدر فتؤكد أن هناك نماذج للنثر الفني في الكتابة الحديثة تعطي أملاً في استمرار هذا النوع من الكتابة. وعلى حسب قولها: لم يختف النثر الأدبي من أدبنا المعاصر، فهناك كتابات غادة السمان، وهي من أبرز من يكتبون هذا النوع من الكتابة، ولها كتاب الحب من الوريد إلى الوريد وكتاب الأبدية لحظة حب. كتاباتها تأتي بعد جيل الرواد مصطفى صادق الرافعي صاحب كتاب رسائل الأحزان، وكذلك هناك كتابات مي زيادة، ونجم نجوم هذه الكتابة هو جبران خليل جبران الذي بلغ ذروة هذا النوع في كتابه النبي. هذه الكتابة تعبر عن قوة الذات في انطلاقها في الفكر الإنساني، لأنها تكشف قطعاً نادرة في المشاعر وخفايا القلوب بشكل لا تتيحه فنون الكتابة الأخرى، فهو يشبه تفتح البرعم قبل أن تتفتح الزهرة، والورقة الخضراء قبل أن تولد على سيقان وردة. إنها كتابة تعد أول الغيث وأعذبه، كتابة تعمل على التكثيف اللغوي. وعن تجربتها في كتابة النثر الفني تقول د. عزة بدر: كتبت هذا النوع من الكتابة في كتابي حق اللجوء العاطفي وتأشيرة دخول إلى النار، وأتمنى أن تتواصل الكتابة في هذا النوع، لأنها تعريه من الشعر، وأحياناً تزيد عليه بما فيها من حرية. وخفوت صوت هذا النوع من الكتابة يرجع إلى بروز قصيدة النثر، التي حملت جماليات هذا الفن من التعبير الذاتي والتركيز على الموسيقى الداخلية. وربما يكون التعبير الدقيق لهذا النوع من النثر هو النثر العاطفي لكن البعض أسماه أدب البوح العاطفي. وفي كتاب أم الدنيا كتبت صوراً قلمية وحصل الكتاب على جائزة الدولة التشجيعية، وكذلك أنجزت كتاب بنت قطقوطة بلغة النثر الفني. ولدى نزار قباني كتابات نثرية، أراها أكثر قرباً إلى قلبي من كتبه الشعرية المميزة. الشعر يهتم بالكليات في تفاصيل العلاقات الإنسانية، أما دقائق الأمور الوجدانية فالنثر الفني أقرب إلى وصفها، هي كتابة تخرج من القلب وتصل إلى القلب، تعطي دفعات شعورية عميقة. ويرى الروائي د. عبد الرشيد الصادق محمودي أنه من الممكن استعادة النثر الفني مرة أخرى، رغم أنه اختفى لعدم اهتمام الكتاب بفكرة الأسلوب. هو انتشر قديماً لاهتمام الكتاب وقتها بفكرة الأسلوب، سواء في الرواية أو القصة أو البحث. فكرة الإجادة هذه اختفت وكذلك المقالة الأدبية التي كان يكتبها أحمد أمين في فيض الخاطر ومن قبله المنفلوطي والمازني والعقاد. بعد ثورة القصة والرواية على مسرح الكتابة أصبح الأسلوب الفني هو الذي يظهر. بعض الكتاب يهتمون بإجادة الأسلوب، والبعض الآخر لا يهتم إلا بالتفاصيل والأحداث والأشخاص، لكن اختفاء المقالة بمعناها القديم وانتشار القصة والرواية أثر بشكل مباشر على وجود النثر الفني. أنا أراعي في كتاباتي - حتى لو كان موضوع الدراسة في الفلسفة - أصول النثر الفني وتقاليده، هكذا تعلمت من أساتذتي أحمد أمين وطه حسين، وكذلك زكي مبارك في حديث بلا شجون. هؤلاء الأساتذة تأثرت بهم كثيراً، ولا أستطيع كتابة رسالة أو مقالة إلا إذا كان فيها جماليات النثر الفني. ويضيف د. عبد الرشيد: المشكلة تكمن في مسألة انهيار التعليم، قديماً نحن تربينا في مدارس كانت تراعي حسن الأسلوب. الكتاب الذين نتطلع إليهم كانوا نماذج معروفة في الكتابة، الآن تدريس اللغة العربية انهار تماماً، وأصبح أساتذة اللغة العربية ضعافاً، فما بالك بالطلاب، لم يعد هناك مراعاة للأسلوب الفني والأدبي، وفي أواخر الخمسينات من القرن الماضي ظهرت كتابات في القصة القصيرة جداً، نتيجة تأثر بعض الكتاب بالكتابة الأجنبية، وقد اطمأنت الأجيال الجديدة إلى هذا النهج نظراً لأن كثيرين منهم لا يجيدون اللغة العربية، ووجدوا أن المسألة وسيلة سهلة.