تركزت خطط الإصلاح التي بدأتها المملكة في أواخر 2011 على الضغط على القطاع الخاص لتوفير وظائف للمزيد من المواطنين عبر نظام حصص التوظيف "نطاقات"، وفرض عقوبات أشد صرامة على الشركات التي لا تلتزم بتلك الحصص، وإلزام قطاعات معينة بتوظيف المواطنات. وفي عام 2012 فرضت وزارة العمل على الشركات رسوما قدرها 2400 ريال (640 دولارا) عن كل عامل أجنبي يزيد على عدد العاملين من السعوديين، في خطوة أصبح معها تعيين العامل الأجنبي أعلى تكلفة من نظيره السعودي، ونتيجة للإصلاحات التي انتهجتها الوزارة انخفض معدل البطالة في 2013 إلى 11.7% من 12.1% في 2012. وبحسب الاحصاءات السنوية لعام 2013 الذي أصدرته وزارة العمل اواخر يوليو، فإن المؤشرات أكدت ان تلك الاستراتيجيات ساعدت التوظيف على تحقيق نتائج ونجاحات ملموسة أبرزها ارتفاع معدل توطين الوظائف بالقطاع الخاص إلى 15.15% بنهاية 2013، مقارنة مع 9.9 % في 2009، كما بلغ عدد العاملين السعوديين ما يقارب 1.5 مليون عامل بنهاية 2013، مقارنة مع 681 ألفا و481 عاملا قبل بدء تنفيذ الاستراتيجية. وفي سياق متصل، أدت تلك الإصلاحات إلى تعثر العديد من المشروعات وأثرت سلبا على أرباح بعض الشركات، وجعلت توفير العمالة الرخيصة أمرا أكثر صعوبة. وخلال الأشهر الأخيرة بدأ تأثير تلك الإصلاحات ينعكس على الاقتصاد الكلي، فتباطأ نمو القطاع غير النفطي إلى 4.4 بالمئة على أساس سنوي في الربع الأول من العام الجاري، مسجلا أبطأ وتيرة له في عشر سنوات على الأقل، مقارنة مع 6.2 بالمئة في الربع السابق. كما تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى معدل سنوي نسبته 4.7 بالمئة في الربع الأول من العام، مقارنة مع 5% في الربع السابق. يضاف إلى ذلك تضرر أرباح الشركات التي تعتمد بشكل مكثف على العمالة الأجنبية، وسجلت واحدة من أبرز شركات المقاولات انخفاضا نسبته 69 بالمئة في أرباح الربع الثاني من العام لأسباب من أبرزها ارتفاع تكلفة العمالة. وأدت مبادرات إصلاح سوق العمل لتآكل هوامش ربح الشركة بنسبة 50 بالمئة على الأقل ليبلغ متوسط التكاليف التي تحملتها الشركة 50 مليون ريال سنويا منذ يوليو 2011، وفقا لتصريحات رئيسها التنفيذي. صدمة كهربائية وبهذا الشأن يقول الاقتصادي عبدالوهاب أبو داهش: "وزارة العمل استخدمت نظام الصدمات الكهربائية في وقت كان فيه الاقتصاد العالمي ضعيفا، ومرت خلاله الاقتصادات الإقليمية بمرحلة من عدم الاستقرار السياسي". ويضيف: "استخدام الصدمات الكهربائية كان قويا نوعا ما على القطاع الخاص، ولفت أبو داهش إلى ظهور سلبيات عدة لسياسات الإصلاح، أبرزها "التوظيف الوهمي"، إذ باتت بعض الشركات تتحايل على القوانين عبر تسجيل الأقارب في سجلات الموظفين لديها، وعبر منح طلاب الجامعات والخريجين السعوديين 1500 - 2000 ريال (400 - 535 دولارا) شهريا مقابل تسجيلهم لديها كموظفين، بينما هم "في منازلهم". ولهذا تسعى الوزارة جاهدة لتعديل استراتيجيتها عبر طرح إجراءات جديدة تخفف من وطأة تأثير الإصلاحات على الشركات، ومشاركتها الأعباء المالية الناجمة عن توظيف وتدريب السعوديين. وفي الوقت ذاته تسعى لزيادة فرص توظيف المواطنين واستقرارهم في سوق العمل من ناحية، وتشجيعهم على العمل بالقطاع الخاص من ناحية أخرى. يقول أحمد الحميدان وكيل وزارة العمل للشؤون العمالية: "المشكلة لا تكمن في القدرة على خلق الوظائف، فنحن نستورد سنويا 1.2 مليون عامل اجنبي، وهو ما يعني أن الوظائف متوافرة في القطاع الخاص". ويضيف: "تعمل الوزارة على دعم السعوديين ليكونوا مقبولين من جانب القطاع الخاص بغض النظر عن التكلفة.. هدفنا ليس الإضرار بالشركات، هدفنا تعيين السعوديين وإصلاح السوق.. وإن كان هذا الأمر مكلفا سنتقاسم التكلفة". تحديات سوق العمل وفي اطار القرارات المبرمة تواجه وزارة العمل عددا من التحديات في سبيل تحقيق الهدف الاستراتيجي الكامن في خفض معدل البطالة، أبرزها وضع حد أدنى للأجور يتناسب مع احتياجات العامل السعودي، وزيادة مستوى التنافسية بين المواطنين والوافدين، وتعديل طبيعة العقود التي تتسم بمرونة تعيين الوافدين أو إنهاء عقودهم مقارنة بالمواطنين. ويرى باحثون من جامعة هارفارد أن التحدي الأكبر هو تغيير طريقة تفكير الشباب والتوقعات العالية التي يترقبونها من سوق العمل. ويرى المواطن حمد أبو داهش أن البطالة في سوق العمل بالمملكة تتعلق فقط بالبحث عن الوظيفة المناسبة، ويقول: "سوق العمل هنا ليس كالأسواق الأخرى. البطالة لدينا تمثل البحث عن فرصة عمل أفضل وليس البحث عن فرص فعلية". تجربة المواطنين ويذكر الشاب سلطان بن حيزان الذي درس التسويق في إحدى الجامعات البريطانية انه عاد الى المملكة منذ نحو عام، والتحق بالعمل في إحدى شركات التأمين الكبرى، لكنه بعد مضي 6 أشهر وجد أنها لا تحقق طموحاته فقرر الاستقالة. ولا يزال دون عمل منذ ابريل. ويقول بن حيزان: "أحيانا يكون من الصعب أن تقبل بوظيفة براتب 6 أو 7 آلاف ريال عند مقارنة مؤهلاتك مع مؤهلات المتقدمين معك.. الأمر لا يتعلق بالحصول على راتب 15 أو 16 ألف ريال شهريا، ولكن الأمر يتعلق ببيئة عمل مناسبة توفر المسار الوظيفي والتدريب والمستقبل الجيد". ويضيف: "معظم من تخرجوا معي وجدوا وظائف عبر الواسطة ومن خلال أناس يعرفونهم، ولا يوجد هنا مكان ترسل إليه سيرتك الذاتية فيقوموا بالاتصال بك. الأمر أشبه بإلقائك في الصحراء ومطلوب منك أن تدبر أمورك بنفسك". وفي سوق العمل تشكو المواطنة "أم محمد"، وهي تعمل منذ نحو عام بوظيفة "كاشير" في أحد محال بيع الأحذية الشهيرة في الرياض، من أن مناخ العمل في قطاع التجزئة لا يزال غير مؤهل بصورة كافية لعمل المرأة. ولفتت إلى أنها كثيرا ما تواجه بعض الضغوطات، بالإضافة الى عدم كفاية العطلة الأسبوعية وهي يوم واحد حاليا وعدم كفاية الراتب، وقالت: "أحصل على 3000 ريال بعد خصم التأمين الطبي والاجتماعي، وامنح السائق 1200 ريال. ويرى أبو داهش أن الإصلاحات قصيرة الأمد لسوق العمل "رغم تحقيقها نتائج إيجابية ممتازة.. إلا أنها أهملت التركيز على تحسين بيئة العمل في القطاع الخاص، لا سيما في القطاعات ذات الطلب الكبير على الوظائف". ويضيف: "معظم الشركات الكبرى مثل سابك وأرامكو والبنوك وبعض شركات التأمين تعطي رواتب ممتازة وتوفر تأمينا صحيا ونظاما للتقاعد ومسارا وظيفيا.. لكن عدد تلك الشركات قليل مقارنة بالشركات الأخرى". التطلع للمستقبل هذه التحديات كانت وراء سعي الوزارة لتخفيف حدة الإصلاحات على الشركات ولمواجهة عدد من المشاكل المعقدة، مثل تغيير طريقة تفكير الجيل الجديد، وتمكين القطاع الخاص من توفير بيئة عمل مناسبة لا سيما للمرأة. ويقول الأستاذ والباحث بجامعة هارفارد عاصم خواجة، والذي أتى إلى الرياض الأسبوع الماضي ضمن فريق لبحث سوق العمل السعودي في إطار اتفاقية شراكة وقعت مع الوزارة في 2013: إنه بعد التركيز في بداية الإصلاحات على رفع نسب التوطين تسعى الوزارة حاليا لكي تضم الشركات إلى صفها. ويضيف: إنه بعد فرض ضغوط كبيرة على الشركات "حان الوقت لمساعدتها والوقوف إلى جانبها". وتنفق الوزارة عبر صندوق تنمية الموارد البشرية مليارات الريالات سنويا لدعم رواتب المواطنين، وتقديم إعانات البطالة للباحثين عن العمل ضمن برنامج "حافز" والمشاركة في تكلفة تدريب العاملين. وتدعم الوزارة ما يصل إلى 50 بالمئة من رواتب العاملين السعوديين، وترد حتى 50 بالمئة نقدا للشركات التي تسجل نموا في توظيف العاملين السعوديين أو ترفع رواتبهم. وفي ذات السياق، قال المدير العام للصندوق إبراهيم بن فهد آل معيقل: إن الإنفاق على برامج دعم التوظيف والتدريب زاد بنسبة 20 إلى 30% على مدى الثلاث سنوات الأخيرة، مقارنة بمستواه قبل إطلاق سياسات إصلاح سوق العمل في أواخر 2011. إطلاق برنامج دروب ومن بين المبادرات الأخرى يعتزم صندوق الموارد البشرية خلال الأسابيع المقبلة إطلاق برنامج للتدريب الإلكتروني باسم "دروب"، يهدف بصورة رئيسية لصقل مهارات الشباب قبل دخول سوق العمل، حيث كانت وزارة العمل أكدت في الكتاب الإحصائي أن الإنفاق السنوي المطلوب لإصلاح سوق العمل عبر استراتيجية التوظيف يقدر بنحو 14.9 مليار ريـال (3.97 مليار دولار). وعلى المدى الطويل يرى مسؤولون حكوميون واقتصاديون أن الإصلاحات ستعزز النمو الاقتصادي بإنفاق المزيد من الأموال على الاستهلاك المحلي، بدلا من قيام الوافدين بتحويل مليارات الريالات إلى بلدانهم. وقفزت تحويلات الوافدين 17 بالمئة على أساس سنوي لتصل إلى 33.86 مليار ريال في الربع الأول من العام، وهو ما يعادل نحو ثلث إجمالي فائض الحساب الجاري، وهي أموال طائلة ربما لا يمكن تحمل كلفتها في حال هبوط أسعار النفط بشكل حاد لفترة طويلة.