هنالك زوار يستضيفون أنفسهم في لبنان ومن دون سابق ترتيبات، ومن هؤلاء على سبيل المثال الدكتور علي أكبر ولايتي مستشار الشؤون الدولية للمرشد علي خامنئي، وقبل ذلك رئيس لجنة الأمن والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني (مجلس الشورى) علاء الدين بروجوردي. هذه الزيارات تحدث في أجواء مسلسل الصدمة الإيرانية الناشئة عن استباق الملك سلمان بن عبد العزيز لما هو أعظم وتفشيله «عاصفة الحزْم» الحلقة الأكثر خطورة في المشروع الإيراني، وهي تطويق السعودية والتمدد إلى سائر الكيانات الخليجية. حل الدكتور ولايتي يوم الاثنين 18 مايو (أيار) 2015 ضيفًا على«لبنان الإيراني الهوى»، على أساس أن لبنان حديقة متوسطية للنظام الإيراني. ومن باب المسايرة عرَّج على «لبنان الدولة» المغلوب على أمر اثنتيْن من رئاساتها (رئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة) فيما الثالثة (رئاسة الجمهورية) في عِلْم الغيب منذ سنة؛ نتيجة أن الجهة الفاغرة الفم لالتهام المنصب الشاغر لا تزال تأمل الالتهام حتى إذا تواصل تمديد الفراغ سنة أخرى، ما دام اللبنانيون اعتادوا بلدهم خاليًا من رئيس الجمهورية، وهو أمر غير مسبوق في أي من دول العالم. أن يزور أي مسؤول عربي أو إقليمي أو دولي لبنان فإن ذلك أمر مستحَب؛ كون الزيارات المتبادلة تعزِّز أواصر العلاقات، لكن الذي يحدث بالنسبة إلى إخواننا أهل الثورة الإيرانية أنهم يأتون في الغالب لرمي المزيد من الحطب على النار. كما أن زياراتهم هي لإيغار الصدور من ميدانهم الوحيد في المنطقة بعد الميدان السوري ضد كل ما من شأنه أن يجعل القلوب تتآلف، والمصالح بين لبنان ودول الخليج بالذات لا تبلغ مرتبة الاستقرار. ثم إنهم يأتون بمفردات لا تليق بالثقافة الإسلامية؛ كون القائلين ينطلقون في نظامهم وطروحاتهم من الأدبيات الإسلامية، وتأتي مفرداتهم تجعل المرء يصنفهم على أنهم من الخارجين عن الأصول. ثم إن مبدأ الزيارات بالذات لا يراعَى من الزوار الإيرانيين؛ بمعنى إما أن تكون طارئة لأمر لا يحتمل التأجيل، وإما تلبية لدعوة رسمية، وفي سياق قاعدة التشاور المتبادَل. ونقول ذلك على أساس أنه من النادر أن يقوم مسؤول في الدولة اللبنانية بزيارة إلى إيران لكي تستقيم ظاهرة الإطلالات الإيرانية. في أحدث الإطلالات على «لبنان الإيراني الهوى» كان الدكتور ولايتي موضع تساؤلات من اللبنانيين في أكثريتهم، بمن في ذلك الطيف الشيعي الساكت عن أوجاعه من إقحام أبناء الطائفة في الصراع الداخلي الدائر في سوريا، وخشية هؤلاء من يوم يتحول فيه السوريون إلى منتقمين من الشيعة في عقر ضاحيتهم، وحيث قراهم. وطبيعة التساؤلات تلك هي حول هذا الإصرار حتى من الذي يشغل منصب المستشار للمرشد، وفي لبنان المبتلى بأعقد أزماته على رمي المزيد من الحطب في نار أوقدتْها المغامرة الحوثية - الصالحية في اليمن المحسوبة بدقة لجهة التحرش بالسعودية، وجاءت «عاصفة الحزْم» تحاول إطفاء هذه النار، بعدما لم يأخذ هذا النظام الإيراني بمبدأ التشاور فلا يتجاوب مع دعوة كان وجَّهها عبْر مؤتمر صحافي (يوم الاثنين 12 مايو 2014) وزير الخارجية السعودي إلى نظيره الإيراني محمد جواد ظريف، أي قبل نحو سنة من الانصراف المهيب للأمير سعود من الواجب الوزاري إلى الواجب الإشرافي والاستشاري. ولقد حفلت تلك الدعوة بتضمين الأمير سعود حُسْن النية مثل قوله: «إن المملكة العربية السعودية ترغب باستقبال الوزير محمد جواد ظريف في أي وقت يراه مناسبًا ...». وقوله أيضًا: «إن إيران جارة للمملكة ولها علاقات معها، وهنالك خلافات يجب أن تتم تسويتها بما يُرضي البلديْن، ونأمل أن تكون إيران ضمن الجهود المبذولة لجعْل المنطقة آمنة ومزدهرة». وقوله أيضا بما يجعل اللبيب يفهم من الإشارة: «إن المطالَبات بتغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية الداخلية أصبحت تأتي من الدول المتقدمة، وأصبحت الأزمات عندما تظهر إلى الوجود مجالاً للتسابق على التدخل في الشؤون الداخلية، الذي يزيد من تفشِّي ظاهرة الإرهاب التي تعود بالضرر على الجميع...». ولم يتجاوب ظريف مع الدعوة مكتفيًا بالقول، إنما بعد ثلاثة أشهر على دعوة الأمير سعود: «في أول فرصة سانحة سأقوم بزيارة السعودية»! هنا يجوز الافتراض أنه في الوقت الذي كان من الأصول الرد على الدعوة بالتلبية، وعلى نحو الرد على التحية بمثلها، كانت غرفة العمليات في رحاب المرشد والحرس الثوري ترسم خرائط انقضاض الحوثي - علي عبد الله صالح على الشرعية في اليمن ونسْف جهود مضنية انتهت إلى ما سُمي «المبادرة الخليجية». ومن الطبيعي عندما تكون الحال على هذا النحو أن لا يلبي وزير الخارجية الإيراني دعوة وزير الخارجية السعودي كي لا يلتزم بكلام أو بموقف يصعُب التراجع عنه ويُربك مخطط وضْع اليد على اليمن على نحو ما حدث لاحقًا، بضع خطوات على طريق الاحتواء ثم جاءت «عاصفة الحزْم» تكشف النيات وتضع أصحابها في الزاوية. ولأن تعطيلاً نوعيًا حدث «سيناريو» التهام اليمن كخطوة أولى، والتمدد منه إلى بقية دول مجلس التعاون بما في ذلك سلطنة عُمان المتوددة، فإن آثار رد الفعل للصدمة تتمثل في استعمال «لبنان الإيراني الهوى» وعدم مراعاة لبنان الدولة رغم الانتقاص من سيادتها، ساحة للشتائم ضد السعودية، الكيان والشعب ورموز الحكْم الذي لولا عاصفته لأصاب المملكة ما أصاب العراق، وتلك مادة في جدول أعمال اللعبة الحوثية - الصالحية. لو كان هنالك حِرْص على استقرار المنطقة والجوار الطيب لكانت إيران اعتمدت السياسة التي تُحقق ولو الحد الأدنى من الوفاق. ولو كان في النفس الإيرانية القليل من الرحمة لما كانت تصر على استعمال لبنان ساحة تشتم منها الآخرين وتُشرك السائرين في مشروعها في صراع لن ينال منه جمهور هؤلاء سوى حساسية مفرطة بهم من جانب سائر أطياف المجتمع اللبناني. كما لو كان أهل الحكْم الإيراني يريدون خيرًا للبنان واستقرارًا طالما افتقده لكان المرشد كلَّف مستشاره الدكتور ولايتي بأن يتوجه إلى لبنان لكي يؤدي دورًا يماثل في صفاء نيته ذلك الدور الذي قام به في مصر الرئيس عبد الفتاح السيسي ومن دون مناشدته أو تكليفه، عندما تفاقم الصراع داخل «حزب الوفد»، وعلى نحو الصراع المستحكَم في لبنان بين الطيف الإيراني والطيف السعودي، الذي بسببه يعيش لبنان منذ سنة من دون رئيس جمهورية. ودخل على خط التوفيق بين جناحيْن وكان التجاوب مع سعيه محمودًا. ولو أن الدكتور ولايتي بدل شتْم المملكة العربية السعودية حذا وهو في زيارة إلى لبنان حذو ما فعله السيسي وعمل في لقاء واحد جامع على تحقيق وفاق ينقل البلد من الصراع المقيت إلى الاستقرار فالازدهار، لكان سيجد اللبنانيين كل اللبنانيين يشكرون الرب على أن المسؤول الإيراني بدأ نقلة نوعية تتمثل في أنه قرر التخلي عن إذكاء الفتنة التي هي أشد من القتل وطي أسلوب الشتيمة التي هي أشد من الفتنة. ويبقى أنني عندما أكتب ما أكتبه فإنني أستحضر متابعة ميدانية من جانبي كصحافي لمرحلة حدثت قبل سبع وعشرين سنة بين جنيف ونيويورك كان فيها الدكتور ولايتي يترأس الجانب الإيراني في أصعب حالة تفاوُض مع العراق الصدَّامي برعاية الأمم المتحدة. وفي ذلك الزمن كان الدكتور ولايتي دبلوماسيًا من الدرجة اللائقة، وهذا أوردته في كتاب لي عن تلك المرحلة البالغة الأهمية من الوضع في المنطقة بعنوان «الخميني وصدَّام. القرار الصعب والخيار الأصعب»، وكان لا يشتم ولا يتجنى على نحو ما فعله عندما زار «لبنانه» ليقول فيه من شتيم الكلام في حق السعودية ما يتناغم مع الذي قاله سابقًا وزاد عليه الأمين العام «حزب الله» السيد حسن نصر الله. وكان حريًا بالاثنين أن يقولا ما يريدان قوله من عرين الثورة الإيرانية طهران، وليس من لبنان الذي يعاني على مدار الساعة من وطأة الذين يستعملونه ساحة للتجني على الغير. أعان الله هذا الوطن.