يصاب الإنسان فيتألم.. ينظر في عيني قاتله.. يتأوه.. يشتكي.. يبكي.. قبل أن يطوي نفسه على آلامه ويرحل. لكن مقابل ما يقول المرء قبل الرحيل، ثمة تاريخ يرحل بلا وداع.. بلا بكاء.. بلا حتى قدرة على الذود عن نفسه.. لكنه حتماً يئن بصوت لا يسمعه الآخرون، يبكي اقتلاعاً من الجذور، وانتزاعاً من حيث صمد ربما بضع مئات من السنين. التاريخ يرحل بالأنين والصمت، وربما كذلك باللعنات لمن يريدون أن يسلبوا الذاكرة، ويشوهوا الهوية. في بلاد سكنها الإنسان منذ آلاف السنين، وأشاد فيها حضارات رائعة، يستشري التنكيل والتدمير. تضيع آثار بلاد الرافدين، ويصبح تاريخ بلاد الشام قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح أثراً بعد عين. جرف داعش مدينة نمرود العراقية الأثرية.. اقتحم متحف الموصل.. سوّى مرقد النبي يونس بالأرض.. أحرق مكتبة الموصل.. ألحق الضرر بقلعة تلعفر وتمثال أبي تمام.. وفي سورية جاس في تدمر، حمّل آثارها الثمينة في شاحنات نقلت التاريخ إلى حيث لا يعرف سواه، وإلى حيث لا يعود لهذا التاريخ تاريخاً ولا قدرة على الشهادة على حضارة شعب جعل من هذه المدينة إحدى أهم المدن الأثرية عالمياً. وتدمر هذه التي تعني "بلد المقاومين" باللغة العمورية، و"البلد التي لا تقهر" باللغة الآرامية، ظهرت في المخطوطات البابلية التي وجدت في مملكة ماري، تمتاز بانتشار آثارها التي تتكون من أعمدة وبوابات ومعابد ومسرح وأكرابول وقصور وخزانات وقلعة ومدافن، تبدو اليوم تحت تأثير خطر محدق لا يعنيه التعامل مع قيمتها التاريخية، ولا يعنيه قيدها ضمن لائحة التراث العالمي. في الحروب، لا يكون الضحايا فقط من البشر.. بل وكذلك من الحجر، لكن حكاية التاريخ تبقى مختلفة، فهو اختصار وشاهد على حكايات النجاح والكفاح، ولا يجدر أن يهدر كأي شيء آخر بلا قيمة. قبل سنوات دخلت متحف تل حلف في برلين الألمانية، وهناك شممت رائحة الأجداد.. رأيت كيف يقف الأوروبيون مندهشين أمام حضارة بلدي التي نقلوها ليتعرفوا عليها عن قرب، ورأيت كيف يتعاملون مع الحجر كقيمة للتاريخ، ورأيت أنني في موقع اهتمامهم وعنايتهم، لأن ما كانوا يقفون أمامه بكل الاندهاش هو حكاية أجدادي وآبائي الأولين.