×
محافظة مكة المكرمة

أنقذوا أبنائي من تسرب الوقود لخزان المنزل

صورة الخبر

فتحت الاضطرابات التي شهدتها بلدة "كومانوفو" على بعد 40 كم شمالي العاصمة المقدونية "سكوبيا" خلال الأيام الماضية، حينما داهمت قوات الشرطة الحكومية المدينة التي يقطنها أغلبية مقدونية قُتل خلالها ما يزيد على عشرين مسلحاً وثمانية رجال من الشرطة، الباب مجدداً لمناقشة الأوضاع المعقدة التي تواجهها واحدة من أخطر وأهم المناطق الجيواستراتيجية في العالم، ويقصد بها منطقة البلقان أو تحديداً شبه جزيرة البلقان، التي كانت الساحة التي اندلعت فيها الحرب الكونية الأولى عام ،1914 أي أنه منذ ما قبل مئة عام من اليوم كانت هذه المنطقة هي محمل الفتيل الأول لاندلاع أولى الحروب العالمية . رغم التقلبات العديدة التي طرأت على شعوب هذه المنطقة ودولها على مدار القرن المنصرم، إلا أنها ما زالت حبلى بالعديد من الصراعات والتناقضات التي تفتح شهية الأطراف المختلفة للتوغل في شؤونها والتوسع على حساب شعوبها . فالكل ما زال يتذكر الحروب ضد الإنسانية التي عاشتها هذه المنطقة في تسعينات القرن المنصرم عقب انهيار المنظومة الاشتراكية وإنهاء الإمبراطورية السوفييتية وتفكك الدولة اليوغسلافية ليخرج من رحمها عدد من البلدان المستقلة كان آخرها "جمهورية كوسوفا" التي أعلنت استقلالها عام ،2008 ذلك الاستقلال الذي لم يحظ حتى الآن باعتراف البعض . ومن دون الدخول في تفاصيل هذه المنطقة ذات التشابكات المتعددة والتعقيدات المتنوعة، يمكن القول إن ما يجري اليوم في مقدونيا ليس فقط بشأن ما حدث من اشتباكات مسلحة في تلك البلدة الصغيرة التي شهدت اشتباكات عام ،2001 وإنما ما تشهده البلاد من اضطرابات سياسية بين الحكومة والمعارضة التي رأت في ضعف الأداء الحكومي وتخاذله وتفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها البلاد، فرصة لتوجيه انتقادات للحكومة وأدائها المتردي، مطالبة باستقالة رئيس الوزراء "نيكولا غروفسكي"، والدعوة إلى انتخابات مبكرة . كل ذلك يثير حزمة من الاستفهامات بشأن مستقبل الأوضاع في مقدونيا وما إذا كانت هذه الأحداث عودة إلى ما شهدته البلاد في بدايات هذا القرن وتحديداً عام 2001 من صراعات مجتمعية على أساس عرقي بين الألبان والمقدونيين أم أن هذه الأزمة سياسية في جوهرها وحقيقتها ويحاول أطرافها استدعاء البعدين العرقي والديني كأدوات لتقوية موقف كل منهما؟ وما موقف الأطراف المعنية خاصة الاتحاد الأوروبي، فهل يمثل الحلم الأوروبي نهاية حقيقية للأزمة أم أن هذا الحلم كان أحد الأسباب الدافعة لتصعيدها؟ وفي خضم الإجابة عن هذه التساؤلات، يجدر القول إن مقدونيا تُعد الحلقة الأكثر تعقيداً في المشهد البلقاني، حيث يرتبط بها الكثير من القضايا التي تتناثر شظاياها في المنطقة برمتها . صحيح أن دورها غير مؤثر في شؤون المنطقة نظراً لضعف نفوذها السياسي وتواضع مواردها الاقتصادية، إلا أنه من الصحيح كذلك أن موقعها الجيواستراتيجي في تلك المنطقة الأكثر حساسية وتأثراً بالتقلبات الدولية والإقليمية أكسبها المزيد من الأهمية في تفاعلات النظام الدولي والإقليمي معاً . وإذا كان صحيحاً أن الأحداث الأخيرة تكشف عن عمق الأزمة السياسية التي تواجهها البلاد ليس فقط بسبب سياسات الحكومة الحالية وفشلها في إدارة الكثير من الملفات المجتمعية، وإنما بسبب حالة الجمود التي يعانيها النظام السياسي في البلاد منذ استقلالها عام ،1993 نتيجة هيمنة الانقسام الإثني على الحياة السياسية، حيث يمثل المقدونيون ما يقارب من ال64% من مجموع سكان الدولة، وتتماهى هذه النسبة مع نسب الانتماء الديني، والذي يُظهر أن نسبة المسيحيين المنتمين إلى الكنيسة الأرثوذكسية تبلغ حوالي 63%، في حين تصل نسبة المسلمين إلى حوالي 35% . بل يذكر أن هذا الانقسام هيمن على الدولة حتى قبل الحصول على الاستقلال، حينما قاطعت الإثنية الألبانية دستور 1991 الذي نص على أن جمهورية مقدونيا دولية قومية للشعب المقدوني وتجاهل كليةً العرقيات الأخرى المتواجدة في الدولة، وهو ما أدى إلى تحطيم التناغم المجتمعي ووضع بذور الانقسام السياسي تمهيداً للانقسام المجتمعي والبدء في صراعات داخلية تتجدد بين الحين والآخر، خاصة أن هذا الدستور مثل تراجعاً عما كان عليه الوضع مسبقاً حينما كانت تصف مقدونيا بأنها "دولة مدنية"، وهو ما أدى بدوره إلى بدء تفاقم الأوضاع السياسية حيث اندلعت أولى هذه الأزمات مع تشكل أول حكومة في إطار الدولة المقدونية الجديدة، حيث تطورت الأزمة بشكل سريع وصل إلى حد حمل السلاح، ولم تنته إلا بوساطة دولية، حيث تم التوقيع على اتفاقية "أوهريد" في 13 أغسطس/ آب 2001 وتم تغيير الدستور المختلف عليه مع إضافة بعض الإجراءات والتدابير الأخرى، مع الأخذ في الاعتبار حقيقة تاريخية مهمة أن الصراع المحتدم اليوم بين القوميتين لم يشهد التاريخ قيام أي حرب بينهما أو حتى شهدت علاقاتهما صراعاً، إلا أن الظروف الراهنة هي التي ساعدت على تشدد الطرفين كل تجاه الآخر . ومما يزيد الطين بلة أن حالة الانقسام والاستقطاب لا تقتصر على البعد العرقي فحسب، وإنما ثمة انقسام سياسي حاد داخل كل قومية، حيث يتجدد الصراع بين حزبين كبيرين يستقطبان المنتمين إلى القومية العرقية ذاتها . ففي داخل الجبهة السياسية المقدونية، نجد صراعاً محتدماً بين أكبر فصيلين سياسيين وهما "الحزب الديمقراطي من أجل الوحدة الوطنية المقدونية" يميني التوجه، وحزب "التحالف الاشتراكي الديمقراطي المقدوني" يساري التوجه . والأمر ذاته يتكرر داخل الجبهة السياسية الألبانية، حيث تعاني استقطاباً حاداً بين حزبين سياسيين أيضاً وهما: "حزب الاتحاد الديمقراطي من أجل الاندماج"، والآخر هو "الحزب الألباني الديمقراطي" . الأمر الذي يزيد من تعقيد المشهد وتشابكه بصورة تبعده كثيراً عن أي تسوية محتملة في المستقبل . ولعل ما جرى في الانتخابات الأخيرة التي شهدتها البلاد في مايو/ أيار 2014 أي قبل عام من تجدد الأزمة، يجسد هذا الوضع بجلاء، فقد رفض الحزب المقدوني اليساري الاعتراف بنتائج الانتخابات التي فاز بها اليمين، لتندلع أزمة سياسية جديدة، صحيح أنها لم تصل إلى الوضع الراهن إلا أنها قد مهدت الأرض لانطلاق موجة جديدة من الصراع السياسي المغلف بأبعاد عرقية ودينية بما يزيد من وطأة الأزمة وتعمقها . الأزمة السياسية . . مسؤولية الداخل وتواطؤ الخارج من الأهمية بمكان القول إن الأزمة في مقدونيا وإن تحمّل الداخل السياسي جزءاً مهماً من المسؤولية في تفاقمها وتصعيدها، إلا أنه من المهم ألا نغفل دور الخارج خاصة الجوار الجغرافي الذي يعارض وجود هوية سياسية مستقلة لجمهورية مقدونيا، ويسعى إلى استقطاب القومية التي يتوافق معها داخل الدولة، حيث تقع على حدودها ثلاث دول لديها أطماع في أراضيها، فاليونان ترفض قيام دولة مقدونيا مستقلة وترفض الاعتراف بها رغم حصولها على اعتراف 133 دولة في العالم، وبلغاريا تنفي جملة وتفصيلاً وجود المقدونيين كشعب مستقل بذاته ولا تعترف بوجود لغة مقدونية خاصة، بل ترغب في إخضاع المواطنين المنتمين إلى الإثنية المقدونية إليه، أما صربيا فترفض الاعتراف باستقلال الكنيسة الأرثوذكسية المقدونية . على الجانب الآخر تمارس كل من ألبانيا وكوسوفا بعد الاستقلال تأثيراً كبيراً في الأقلية الألبانية القاطنة في مقدونيا ربما يمثل ذلك دعماً لهم على سعيهم للمطالبة بإقامة حكم ذاتي مستقل . الحكومة والمعارضة . . وجهتا نظر متباينة بشأن الاضطرابات الأخيرة: مما يلفت النظر في الأزمة الأخيرة أن الحكومة التي يرأسها "الحزب الديمقراطي من أجل الوحدة الوطنية المقدونية" يميني التوجه، والمعارضة التي يتزعمها حزب "التحالف الاشتراكي الديمقراطي المقدوني" يساري التوجه تتبادلان الاتهامات بشأن المسؤولية عن إثارة مثل هذه الاضطرابات، ففي الوقت الذي يذكر فيه المتحدث باسم وزارة الداخلية أن: "الشرطة بدأت العملية بناء على معلومات بشأن مجموعة مسلحة كانت تخطط لأعمال إرهابية وأنهم تسللوا إلى البلاد من دولة مجاورة"، وسارعت إلى إقالة كل من وزيرة الداخلية "غوردانا يانكولوفوسكا"، ووزير النقل والاتصالات "ميلا ياناكيفيسكي"، ومدير الأمن والاستخبارات "ساشو ميالكوف"، في محاولة لتهدئة الرأي العام واحتواء تداعيات الموقف . على الجانب الآخر، تعتبر المعارضة أن هذا القول من قبيل المغالطات وأن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة غير كافية، بل ترى أن الحكومة هي التي تحاول إذكاء مثل هذه الاضطرابات بهدف لفت الانتباه عن الأوضاع المتردية التي تعيشها البلاد، وهو ما أشار إليه صراحة زعيم المعارضة "زورانزاييف" بأن: "هذا السيناريو الأسود لن يفلح . المواطنون يفهمون من الذي له مصلحة في سيناريو كهذا" . نهاية القول إذا كانت الحياة السياسية في مقدونيا ستظل تشهد صعوداً وهبوطاً في إطار حالة الجمود السياسي المهيمنة على مفاصلها بسبب الصراع الإثني، فإن الخروج من هذه الحالة يستوجب العمل على إعادة ترتيب البيت السياسي عبر جعل المؤسسات الدستورية والسياسية متوافقة مع الواقع المجتمعي الذي يتميز بالتعددية الثقافية والدينية والعرقية، وذلك من خلال العمل على استيعاب جميع الأطراف والسعي نحو تحقيق تطلعاتهم . ومن دون ذلك، تظل الدولة تدور في حلقة مفرغة تنتقل من حالة تسوية سياسية بفضل وساطة دولية أو إقليمية، إلى حالة من الصراع الذي يأخذ أشكالاً مختلفة وأنماطاً متنوعة إلا أنه يحمل ذات الجوهر أو المضمون . فضلاً عن أهمية أن يدرك الجوار الجغرافي لدولة مقدونيا الذي يشمل (خمس دول بعد استقلال كوسوفا) أن تدهور الأوضاع وتفاقمها في مقدونيا لن تقتصر نيرانها عليها فحسب، بل سيمتد لهيبها إلى داخل هذه البلدان التي تعاني هي الأخرى حالة تعددية عرقية ودينية وثقافية واقتصادية لا تقل تفاقماً عما تعانيه مقدونيا، بما قد يجعل ما يجري في مقدونيا اليوم إذا لم يتم احتواؤه وتسويته على أسس سليمة، وهو الشرارة التي تتطاير شظاياها لتحرق المنطقة برمتها . فكما نجح الاتحاد الأوروبي في لعب دور الوساطة بين صربيا وكوسوفا في التوصل إلى اتفاق في إبريل/ نيسان 2013 تم بمقتضاه تسوية النزاع بينهما، فإنه مطالب اليوم بلعب دور أكبر في تحسين علاقات مقدونيا مع جوارها الجغرافي الذي يمثل دعمه للأطراف الداخلية العنصر الأكثر حسماً في تأجيج صراعاتها . ما نود قوله إن الاتحاد الأوروبي رغم كل ما يواجهه من تحديات وإشكاليات مطالب بتحمل مسؤوليته تجاه هذه البلدان قبل أن تشهد صراعات وانقسامات على أسس عرقية وإثنية تتعدى حدود الدولة الواحدة إلى حدود الدول المجاورة . باحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية