خلال 48 ساعة فقط تجاوزت مبيعات أكبر صالتين للمزادات في العالم "سوذبي" و"كريستي" من اللوحات الفنية مليار وربع المليار دولار أمريكي، فيما قدرت مبيعات الصالتين في العاصمة البريطانية لندن من الأعمال الفنية في أسبوعين بنحو 2.3 مليار دولار. وقد أثار بيع لوحة "نساء الجزائر" للرسام الإسباني الشهير بابلو بيكاسو بنحو 180 مليون دولار في مزاد لصالة "كريستي"، تساؤلات تجاوزت عالم الفن ومحبيه إلى حجم سوق اللوحات الفنية في العالم وقيمتها؟ وهل تعكس تلك الأسعار الهائلة نوعا من الاستثمار أم شكلا ما من أشكال غسل الأموال؟ وإلى أي مدى يعتبر انتعاش سوق الأعمال الفنية الآن دليلا على خروج العالم من أزمته الاقتصادية التي تفجرت في 2008 أم أنه مؤشر واضح على تزايد حدة تركز الثروة عالميا، وغياب العدالة في توزيعها سواء على مستوى الدول أو الأفراد؟ يبلغ معدل النمو السنوي حاليا في سوق اللوحات والأعمال الفنية نحو 7 في المائة، وخلال العام الماضي قدرت المبيعات (المسجلة رسميا) بـ 51 مليار دولار، لتتجاوز بذلك أعلى رقم وصلت إليه قبل الأزمة الاقتصادية عندما بلغت عام 2007م نحو 48 مليار دولار أمريكي. ولـ "الاقتصادية" يعلق دان كيني الخبير في الأعمال الفنية الحديثة قائلا "تجارة اللوحات والأعمال الفنية تشهد حاليا أعلى لحظات الرواج، فهناك إقبال شديد للغاية عليها كشكل من أشكال الاستثمار "شبه المضمون"، فهو استثمار يتمتع بعدد من المميزات، أولا الطبيعة الطبقية للمستثمرين فيه، فهو غير متاح لعامة الناس كالأسهم والسندات والعقارات، ويدور بين طبقة محددة شديدة الثراء، وعدد البائعين والمشترين محدود للغاية، ثانيا الطابع السري للمستثمرين فمثلا لوحة نساء الجزائر لا أحد يعرف اسم المشتري، والأسماء التي تم تداولها ليست بالضرورة صحيحة، وهذه السرية مضمونة بقوة القانون، ويمنح ذلك كبار الأثرياء في العالم ضمانا بإمكانية زيادة ثروتهم بعيدا عن أعين الإعلام". وتهيمن سوق الولايات المتحدة على الجزء الأكبر من تجارة الأعمال الفنية حول العالم حيث تحتكر نحو 39 في المائة من مبيعات اللوحات والأعمال الفنية عالميا، لكن الجديد هو تنامي دور كبار الأثرياء الصينيين في هذا المجال، إذ أصبحت الصين تهيمن حاليا على 22 في المائة من السوق، لتنافس بذلك أحد أكثر البلدان قدما في هذا المجال وهي المملكة المتحدة وتبلغ حصتها الآن 22 في المائة. ولا يزال الجزء الأكبر من تجارة اللوحات والأعمال الفنية يتركز في الأعمال الفنية المعاصرة أو ما تم رسمه ونحته بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتمثل حصة تلك الأعمال نحو 48 في المائة من إجمالي المبيعات. ولـ "لاقتصادية" يعلق الدكتور بيرت مادفورد أستاذ التجارة الدولية في جامعة كمبريدج قائلا "بيع وشراء اللوحات والأعمال الفنية أصبح جزءا بارزا من التجارة الدولية، والتقديرات الراهنة أن قيمتها ستراوح بين 130 - 165 مليار دولار سنويا خلال السنوات العشر المقبلة. وإذا أخذنا في الحسبان "التجارة الخاصة" والبعيدة عن أروقة المزادات، فإن الرقم سيقفز أكثر من ذلك كثيرا، فقد بيعت أخيرا وبعيدا عن صالات المزادات لوحة بـ 300 مليون دولار". وحول أسباب انتعاش هذه السوق، يجيب الدكتور مادفورد قائلا "نظرا للطابع السري والمعقد في هذه السوق فإن الأرقام تكون دائما تقريبية، وتشير بعض الدراسات الموثقة إلى أنه بالنسبة للمستويات رفيعة المستوى في مجال تجارة الأعمال الفنية، فإن عدد البائعين والمشترين لم يتجاوز 13.7 مليون شخص عام 2013، وبذلك فإننا أمام سوق عدد المتعاملين فيها دوليا محدود للغاية، إذا قارنته بأي سلعة أخرى. أضف إلى ذلك أن إجمالي ثروة هؤلاء الأشخاص يبلغ نحو 53 تريليون دولار، وهذا يفسر قدرتهم على استثمار تلك المبالغ الضخمة في لوحات ومنحوتات تبدو للشخص العادي لا تستحق تلك الأموال الطائلة"، ويضيف "لكن هناك ظاهرة جديدة تتزايد بفعل التكنولوجيا والإعلام، وهي دخول قطاعات من الأشخاص متوسطي الدخل سوق الأعمال الفنية للاستثمار في الأعمال منخفضة الثمن، فالشراء والبيع عبر الإنترنت وعدم الحاجة أو غياب القدرة على دخول صالات المزادات الكبيرة، شجع على تنامي هذه السوق، ونتيجة لتسليط الإعلام الضوء على الأرباح المحققة من تلك التجارة، فإن الأمر أصبح أكثر جاذبية لأصحاب الدخول المتوسطة للاستثمار في الأعمال الفنية. وقد بلغت قيمة المبيعات في العام الماضي نحو 3.3 مليار دولار"، لكن الانتعاش الراهن في ذلك القطاع الاقتصادي يدفع البعض إلى التحذير بأن الأمر لا يتعدى فقاعة يمكن أن تنفجر في أي وقت، وتكلفة الانفجار ستكون مكلفة للغاية بالنسبة للمستثمرين في هذا المجال. ولـ "الاقتصادية" تعلق الدكتورة أماند هيل أستاذة الاقتصاد الكلي في جامعة بروملي قائلة "الاستثمار في مجال اللوحات الفنية يختلف عن الاستثمار العقاري أو الأسهم والسندات بأنه لا يحقق عائدا شهريا، والربح المتحقق ينجم عن الفرق بين سعر البيع والشراء، ومن ثم في حالة انفجار الفقاعة الراهنة في سوق الأعمال الفنية، فإن المستثمرين سيتعرضون لخسائر جمة، وهذه المخاطرة ربما تفسر نسبيا الارتفاع المبالغ فيه في أسعار بعض تلك الأعمال الفنية، وخاصة أن السوق تتطلب نحو عشرة أعوام تقريبا لتستعيد توازنها". وحول حجم الخسائر التي يمكن أن يتعرض له الاقتصاد العالمي إذا تعرضت سوق الأعمال الفنية للانهيار، تجيب الدكتورة أماندا قائلة "على الرغم من ارتفاع قيمة المبيعات من الأعمال الفنية إلى نحو 51 مليار دولار، إلا أن السوق لا تزال مثل نسبة صغيرة للغاية من التجارة العالمية، أضف إلى ذلك أن ما يتم تداوله فيها هو سلعة شديدة الخصوصية وليست سلعة عامة أو جماهيرية، كما أن المستثمرين في هذا المجال هم من كبار الأثرياء في العالم، وغالبا الاستثمار في هذا المجال لا يمثل إلا جزءا يسيرا للغاية من ثروتهم، ولهذا فإن انخفاض الأسعار يعني تعرضهم لخسائر شخصية أكثر من تأثر الاقتصاد العالمي" ومع هذا فإن بعض المختصين يرى في تصاعد الاستثمار في سوق الأعمال الفنية من قبل كبار الأثرياء حول العالم، دليلا على أن الاقتصاد العالمي لم يتعاف بعد. المختص المالي ماكس راسيل يقول لـ "الاقتصادية": "إذا أخذنا في الاعتبار أن اللوحات الفنية لا تعود على أصحابها بعائد متواصل، وعلى الرغم من ذلك تفضل النخبة الثرية عدم الاستثمار حاليا في أصول تقليدية كالأسهم والسندات وتوجيه تلك الملايين للاستثمار في تلك اللوحات، فإن هذا يعكس شعورا بعدم اليقين بأن الاقتصاد العالمي تعافى بشكل تام، وأن المخاوف من تغيرات في قيمة العملات عبر العالم واندلاع حرب عملات بين الدولار والعملات الدولية الأخرى لا تزال قائمة". وسواء كان الوضع الراهن في سوق اللوحات والمنحوتات العالمية فقاعة قابلة للانفجار، أو انتعاشا يعكس ثقة المستثمرين بالآفاق المستقبلية لهذا القطاع، فإن الجدل بين المختصين يمتد حول العلاقة بين ازدهار ذلك القطاع وغياب العدالة في توزيع الثروة عبر العالم، فعدد من الاقتصاديين المهمومين بقضايا العدالة الاجتماعية يجدون في الأرقام الفلكية التي تدفع ثمنا للوحات فنية مؤشرا على تركز الثروة في يد عدد محدود من الأشخاص في عدد محدود من الدول. ولـ "الاقتصادية" يعلق الدكتور سام وينتور من مدرسة لندن للاقتصاد قائلا "إذا فرضنا أن الشخص الذي قام بشراء لوحة نساء الجزائر بمبلغ 179 مليون دولار قد استثمر 1 في المائة من ثروته، فإننا بصدد الحديث عن شخص تبلغ ثروته 17.9 مليار دولار، فإذا قارنا ذلك بقائمة الأشخاص الأكثر ثراء في العالم التي تنشرها مجلة فوربس الشهيرة، فإننا سنكتشف أن هناك 50 شخصا فقط في العالم يمكنهم شراء تلك اللوحة، ونظرا لأن سوق اللوحات والأعمال الفنية هو من أقل الأسواق التي تتدخل فيها الدولة بتشريعات وقواعد منظمة، فإنه مجال خصب لغسل الأموال".