منذ الثورة الإيرانية أرى اليسار وهو يتخبط في سعيه الى فهم عودة العامل الديني، وتجدد أثره في تاريخ العصر. فالديـــانات الكبرى كلها تشهد اليوم لوناً من الإحياء، والإيمان المتجدد نفحة حياة حارة. ومنذ نهاية سبعيـــنات القرن العشرين، وعلى الأخص في الأعوام العشرة المنصرمة، كان العالم الإسلامي المسرح الأول لفعل العامل الديني وتأثيره القوي. فمن باكستان الى نيجيريا، وفي بعض بلدان أوروبا كذلك، تتجــلى طاقة الإسلام «الجهادي» على تعبئة عـــدد كبير من الرجال والنساء في سبيل القتال تحت رايته. ويحاول بعضنا الإجابة عن هذه الحال، لكن معـــــظمنا يخفق إخفاقاً ذريعاً في محاولته. وإحدى عـــــلل الإخفاق هي الخوف من تهمة «رهاب الإسلام». وقد تكون مناوأة أميركا أو التعصب في معاداتها شكلاً حاداً من أشكال النسبية الثقافية التي تضطلع بدور راجح في العجز عن فهم هذه الحال. لكن أشكال النسبية الثقافية عرض قديم ومعروف. وما يعود إليَّ شخصياً، فإن أشد ما يخيفني هو النضالية الدينية، وأقر بأن الجهاديين يتصدرون أسباب رعبي. فالعالم الإسلامي، في هذا الوقت أو الفصل من تاريخنا (ولم تكن الحال دائماً على هذا الوجه وليس ثمة ما يدعو الى الظن انها ستكون على الدوام هكذا)، تخضه انتفاضة وحماسة عاصفتان. فهل ينبغي حمل هذه المقالة على مناهضة الإسلام، وعلى رأي مجبول بالكراهية والأحكام المسبقة؟ وإذا قلتُ ان المسيحية كانت، في القرن الحادي عشر (للميلاد)، دين محاربين صليبيين ومصدر خطر على اليهود والمسلمين، هل يدينني هذا بمعاداة المسيحية؟ وأنا لا يفوتني ان زمن الحروب الصليبية ولّى، ولا ان نشر الإيمان ليس جزءاً لا يتجزأ من المعتقد. ويجوز قول الأمر نفسه في الإسلاميين اليوم أو ينبغي أن يصح هذا القول فيهم، على رغم ان العنــف الجهادي ليس من مقتضيات فلسفة الاعتقاد الإســـلامي، وعلى رغم أن مسلمين «وسطيين» كثيرين ينكـــرون العنف الديني وأن معظم المسلمين يتركون راضـــين الى عدالة السماء البت في أمر المبتدعين والكـــفار. وأعرف أن «جهاد النفس» لا يقل مكانة عن «جهـــاد السيف»، بل هو «الجهاد الأكبر»، على ما جـــاء في الحديث النبوي. ولا أنكر أن العالم الإسلامي بعيد من التجانس والوحدة. وهذا كله لا يحول دون الإقرار بقوة «جهاد السيف» وإشاعته الخوف. وغالباً ما أصطدم في هذا المعرض، بيسار يشغله تجنب تهمة رهاب الإسلام عن إدانة التعصب «الجهادي». ولا شك في ان مسوّغ هذه الحال، بأوروبا الغربية والولايات المتحدة، هو كون المسلمين مهاجرين حديثي العهد بالهجرة، ومعرّضين للتمييز والمراقبة البوليسية والعداوة الشعبية. ولا يقتصر الأمر على اليمين الشعبوي والقومي المتعصب. وعلى رغم تقصير اليساريين في فهم الظاهرة الدينية، فهم لا يخشون محاربة القوميين الهندوس أو الرهبان البوذيين المتحمسين أو الصهيونيين الخلاصيين المنخرطين في الدفاع عن المستوطنات الإسرائيلية. والحال إن اليساريين لا يتبنّون قضية الجهاديين، ولا ينحازون إليهم. وعلى رغم هذا، ينبغي ألا يستهان برفض معظم اليسار الإقرار بهذه الجرائم تمهيداً لتحليلها وتقويم تعصّب الجهاديين الإسلاميين تقويماً عاماً. فما الذي يحول دون التحليل والنقد؟ يشدد كثيرون من كتّاب اليسار على القول إن سبب التعصب الديني ليس الدين بل الإمبريالية الغربية والقهر والفقر. وبعضهم يحسب ان التعصب ليس نتاج الإمبريالية الغربية وإنما هو واحد من أشكال مقاومتها والتصدي لها. وأياً كانت الجماعات التي يستقطبها ويحشدها فهو إيديولوجية المقهورين، أي واحدة من صيغ سياسية يسارية، مهما بدا الأمر غريباً. ويرى الفيلسوف السلوفيني سلافوي زيزيك أن التطرف الإسلامي مرآة «سعار ضحايا العولمة الرأسمالية». ولا بأس بالإشارة الى ان زيزيك لا يخشى اتهامه برهاب الإسلام، فهو يؤمن بنقد «يحترم (الديانات) ولا يتورّع عن القسوة عليها». ويقصّر نقده عن بلوغ غايته ما أقام على اعتقاده ان سعار الإسلاميين هو نفسه موضوع سعاره هو. وترتكب الفيلسوفة الأميركية جوديت باتْلر الخطأ نفسه حين تكتب أن «اعتبار حماس وحزب الله حركتين اجتماعيتين تقدميتين، وأنهما حركتان يساريتان وجزء من يسار عالمي، أمر عظيم الأهمية». وهي كتبت هذا في 2006، وكرّرته في 2012 وزادت عليه استدراكاً: «حماس» و«حزب الله» حركتان يساريتان لأنهما «تناهضان الإمبريالية». لكـن باتلر لا تؤيد كل منظمات اليسار العالمي، ولا تقرّ بتوسّل هاتين المنظمتين العنف الى غاياتهما. وتسرني إضافتها هذا التحفظ، لكنني أرى ان إدخالها المنظمتين تحت باب اليسار خطأ في خطأ. ولا يخطو دعاة ما بعد الحداثة خطوة متقدمة على مناهضي الإمبريالية حين يتصدّون لتعصّب الجهاديين الإسلاميين. ولا بأس بتذكّر ميشيل فوكو، ومديحه فظاظة الثورة الإيرانية وتسويغه هذه الفظاظة قائلاً: «مبنى (أو مثال) حقيقتهم ليس مبنانا (أو مثالنا)». وجرت هذه الصيغة من النسبية الثقافية مجرى البداهة العامة. والدفاع الأشد حدّة، في صفوف ما بعد الحداثة، عن الغلو الإسلامي، رفع لواءه أستاذ الأدب مايكيل هاردت والفيلسوف الإيطالي أنطونيو نيغري، فهما كتبا أن الإسلام السياسي هو بالضرورة نهج ما بعد حداثي: «القرينة على ما بعد حداثة الأصولية هي رفضها الحداثة سلاحاً بيد الهيمنة الأوروبية - الأميركية - وعلى هذا الوجه فالأصولية الإسلامية مثال بارز ويقاس عليه». ويقول هاردت ونيغري: «ورفع الثورة الإيرانية لواء رفض السوق العالمية يؤهلها إلى اعتبارها ثورة ما بعد حداثية». وتبـــدو ردود اليسار على الإسلاميين الجهاديّين، في ضــــوء مضامين إيديولوجيا هؤلاء شديدة الغرابة. وينبغي أن تقلق المعارضة الجهادية «الغرب» اليسار. و«بوكو حرام» بدأت بمهاجمة المدارس «ذات النمط الغربي»، وهـــاجمت منظمات شبيهة بـ «بوكوحرام» مـــدارس البنات على وجه الخصوص. والمعايير أو القيم التي يطعن المتعصّبون في «غربيتها» - أي الحرية الفردية والديموقراطية والمساواة بين الجــنسين والتعدد الاعتقادي - هي محور المناقشة وقلبها. وما لا شك فيه أن الغربيين لم يحترموا على الدوام هذه المعايير أو القيم، وغالباً ما أخفقوا في الدفاع عنها. لكنها معايير أو قيم تبايعها المراوغة الغربية، ويسعى بعضنا جاهداً في حمايتها. وهي المعايير أو القيم التي ينتسب إليها اليسار ويعرِّف نفسه بها إلى حد بعيد. فماذا تشبه حركة يساريّة تناهض القهر والفقر؟ لا ريب في أنها حركة مقهورين تعبئ رجالاً ونساء كانوا مستسلمين لقدرهم، وقاصرين عن التعبير ويتملّكهم الخوف، فبادروا إلى الكلام باسمهم وإلى الدفاع عن حقوقهم الإنسانية. وغاية الحركة هي تحرّر هؤلاء الأفراد، ومحرّكها هو رؤيا، بعضها صادر عن الثقافة المحليّة، إلى مجتمع يتمتع أعضاؤه، رجالاً ونساء على حد سواء، بمقدار من الحرية والمساواة يفوق المقدار السابق، ويعاملهم الحكم معاملة مسؤولة وخالية من الفظاظة. وكيف ينبغي لليسار أن يرد على جماعات الإسلاميين؟ عليه أن يساند الأعمال العسكرية، وخصوصاً تلك التي ترمي إلى الحؤول دون ارتكاب المجازر في حق الكفّار وفرق المنحرفين. ولا بأس، بعد هذا، بانتهاج سياسة تسعى في تطويق الأصولية الجهادية ولجمها بديلاً من حرب أو سلسلة حروب تريد تدميرها. فالأصولية الجهاديّة جمرة ينبغي أن تنطفئ من تلقاء نفسها. لكن هذه الفكرة لا تخلو من مواجهتنا بعقبة كأداء. فـ «الانطفاء» يفترض عذابَ جمع غفير من الناس، واليسار يتجاهل هذا العذاب، ويتظاهر باستقامتنا الأخلاقية. وما السبيل إلى مساعدة الذين تستهدفهم قوى الإسلاميين؟ هذا سؤال يجدر بنا ألا نكفّ عن طرحه. وعلينا أولاً تناول الحرب الإيديولوجية. وأول ما علينا القيام به هو تمييز تعصب الإسلاميين من الإسلام، والتشديد على الفرق بين كتابات المتعصبين من أمثال حسن البنا (1906 - 1949)، مؤسس «الإخوان المسلمين» و»العالم» الباكستاني مولانا أبو الأعلى المودودي (1903 - 1979)، وبين أعمال كبار الفلاسفة العقلانيين القدماء والإصلاحيين الليبرالين المحدثين. وعلينا كذلك التعاون مع المسلمين على اختلاف معتقداتهم وشعائرهم، ومساندتهم على النحو الذي يرتأونه هم. فالمسلمون غير المتعصّبين كثر، وبعضهم يأتي من اليسار ثم يميل إلى اليمين نتيجة افتقاره إلى أصدقاء يساريين. وعلى اليساريين أن يفهموا ضرورة الدفاع عن الدولة الزمنية في عصر «ما بعد الدولة الزمنية»، وكيفية الدفاع عن المساواة والديموقراطية والاحتجاج لهما على حجج أنصار المراتب والثيوقراطية. ولا مناص من الإقرار بسلطان المتعصّبين وباتّساع مداه السياسي، ولا من وصفهم بالأعداء، وشنّ حملة فكرية عليهم هي، في آن، حملة دفــــاع عن الحريّة والمساواة والتعدديّة. ولستُ أزعم أن علــى اليسار الانضمام إلى «صدام الحضارات» الـــذائع الصيت. فالحضارات الدينية الكبيرة كلها فـــي مستطاعها، من غير استثناء ولا فرق، أن تخلّف متعصـــبين عنيفين وأولياء يجنحون إلى السلم - وما بين هؤلاء وأولئك من المتوسّطين. فليس ما يدعو إلى حمل هذا النضال على معانٍ حضارية، والأحرى حمله على معانٍ إيديولوجية. واليسار يحتاج إلى من يدافع عنه في وجه الأخطار الداهمة. وخير ما في مقدوري أن أصنعه، وأنا كاتب ولستُ مناضلاً محارباً، هو الانخراط في هذه الحروب الإيديولوجية، واستنفار رفاق من أمم شتّى. وأحسبُ أن ثمة فيلقاً دولياً يضوي مثقّفين يساريّين، ينتظر الالتئام.