تحتوي أجسامنا على أكثر من ستمائة وخمسين عضلة. بعضها عجيبة في أحجامها ومواقعها بداخلنا، وبعضها غريبة في أسمائها، وعضلتي المفضلة ضمن جميع هذه النعم الرائعة هي عضلة «القرف» على وجوهنا. وهي المسؤولة بمشيئة الله عن رفع أعلى طرفي الشفاه وتحريك أنوفنا لتعكس اشمئزازنا. والروعة هنا هي الحركة البسيطة التي تولد إحدى أروع انعكاسات عدم الرضى على وجوهنا. وهناك أيضا طرائف أخرى لهذه العضلة، ومن أهمها اسمها وهو أطول اسم لجميع عضلات الجسم، باللاتينية تكتب بهذه الطريقة Levator Labii Superioris Alaeque Nasi ومعناها التقريبي «رافعة الشفاه العلوية بالطرف الخارجي للأنف» والله أعلم. الطريف هنا هو أن العضلة صغيرة جدا فهي أقصر بكثير من طول الكلمة ببنط 14 أمامكم الآن. وموضوع القرف من المواضيع ذات الأبعاد العلمية المهمة فلو تأملت فيه، ستجد أن العناصر المحركة له مشتركة بين البشر في كل زمان ومكان تقريبا. طبعا لا داعي لذكرها هنا لأنها مقززة، وهي معروفة، وبصراحة لا أرغب أن يكون مقالي من دواعي القرف في حياتكم بأي شكل من الأشكال. ولكن تأمل في الموضوع وستجد الكثير من الطرائف. هرتي تعلن عن حالات اشمئزاز عجيبة تجاه العديد من الأمور ومنها المأكولات غير الطازجة. وان كانت الهرة تعاني من القرف، فهل ممكن أن تعاني منه المخلوقات الأخرى ومنها الحشرات مثلا ؟ الموضوع يحتوي على المفاجآت فالصرصور مثلا الذي نعتبره أحد رموز القرف الأساسية يعكسه نحو العديد من الأشياء التي يلمسها. لنقف هنا للحظة واحدة لو سمحتم. هل لكم أن تتخيلوا «صرصور قرفان» ؟ وذكرت مسبقا معضلة أن الصرصور لو لمس إنسانا فيبدأ بتنظيف نفسه بشدة ولفترة طويلة وكأنه يعلن «وجع ! لمست إنسان !». وهناك أمثلة كثيرة من عالم الحشرات على آليات دفاعية للمحافظة على سلامة وصحة الكائن التي يحركها الشعور بالقرف. العديد من الحشرات الاجتماعية مثل النحل والنمل مثلا تلجأ إلى تقسيم الخلية هندسيا إلى عنابر وممرات لسهولة التخلص من الفضلات وعدم تراكم السموم بداخل المنشاة. وهناك بعض الديدان التي تعمد إلى دفع فضلاتها بعيدا عن أماكن غذائها بقوة دفع رهيبة تعادل دفع المدفع الصغير. تخيل دودة «قرفانة» أعزكم الله. وبعض الطيور تحمل مخلفاتها في أكياس مغلقة وتطير بها بعيدا عن عششها. وترميها من الجو. ولو كان يومك سيئا جدا فممكن أن تجد إحدى تلك القذائف الملغمة تهوي من السماء على سيارتك. والأغرب أن بعض الطيور تعطر عششها بين كل حين وآخر بالأعشاب العطرة كما نفعل في منازلنا. وسبحان الله أن مهمة تنظيف العش تقوم بها الإناث، ولو ماتت لا يكملها الذكور وتصبح العشش قمة القرف بجميع المستويات والمعايير. ولا ننسى مؤثرات الذاكرة، فأذكر أنني مرضت بعدما أكلت «زبدية» كبيرة من الططلي. وكان مرضي بسبب لا علاقة له بما أكلت، وبالرغم من ذلك فلم ألمس الططلي لمدة حوالى عشرين سنة بسبب الرابط غير الدقيق بين الأكلة والنزلة المعوية. وبصراحة يمكن اسم هذه الأكلة الغريب كان من المؤثرات. ولكن القرف لا يقترن بالنواحي البيولوجية فحسب، فنجد أن هناك جوانب أخلاقية، أو بالأصح اللاأخلاقية المثيرة للقرف، وهي التي تؤكد على الفوارق الجوهرية بين البشر والكائنات الأخرى. وللأسف أنها أصبحت شائعة. أمنيــــة يكون القرف منظومة فاعلة للحماية من المخاطر التي تهددنا، وأولها العناصر المقززة التي تهدد الحياة والصحة بشكل أو آخر. أتمنى أن نحرك بداخلنا تلك المنظومة نحو التجاوزات الهائلة في حقوق المظلومين في سوريا وفلسطين وفي كل مكان. فهي تهديدات لا يشعر بها إلا من يمارس الإنسانية وصحوة الضمير، ومخافة الله عز وجل. وهو من وراء القصد.