العالم الذي نعيشه حاليا على الصعد البشرية والحيوانية والنباتية والثقافية ليس إلا نتيجة للتبادل الذي حصل بين العالم الجديد والعالم القديم كما يحب البعض وصفهما بعد اكتشاف كولومبس لأميركا. ويوصف هذا التبادل علميا بالتبادل الكولومبي أو التبادل الكبير. وقد أدى هذا التبادل إلى زيادة هائلة في عدد سكان القارات والعالم بشكل عام. وجاء استخدام هذا التعبير لأول مرة في الكتاب الخاص بالتأثير البيئي لوصول كولومبس إلى العالم الجديد، والذي حمل الاسم نفسه «التبادل الكولومبي». وقد نشر الكتاب المؤرخ الأميركي الفرد غروسبي عام 1972 ليصبح واحدا من أهم الكتب في هذا المجال، إلى جانب كتابه الآخر الإمبريالية البيئية. ويحاول غروسبي في الكتابين الهامين أن يقدم بعض التفسيرات البيو - جغرافية لسر سهولة نجاح الأوروبيين في ما يسميه بالأوروبيات – الجديدة، أي الأميركتان الشمالية والجنوبية وأستراليا. بأية حال فإن التبادل الكولومبي قد أثر على كل المجتمعات حول العالم من أوروبا إلى أميركا إلى أفريقيا وآسيا، وعمل على تغيير طرق حياتها مرة وإلى الأبد، ولم يتوقف على نقل الأمراض والحيوانات، بل شمل كثيرا من الخيرات والنباتات القادرة على إطعام شعوب بأكملها. فأصول 8 محاصيل من أصل الـ26 محصولا زراعيا رئيسيا حول في العالم تعود إلى الأميركتين ولا يزال ثلث المحاصيل الأميركية الحالية أميركي الأصل. وبينما جاء الأوروبيون من أميركا اللاتينية بمحاصيل رئيسية كالذرة والبندورة والبطاطا عند بدايات القرن السادس عشر، قدم الأوروبيون إلى مناطق آسيا الاستوائية الفول ونبتة البفرة التي تعرف بالكاسفا والغنية بالوحدات الحرارية. وقد أصبحت الأخيرة جزءا لا يتجزأ من بعض المواد الأساسية في بعض البلدان الأفريقية. وتقول الموسوعة الحرة في هذا الإطار إن البندورة التي جيء بها من أميركا اللاتينية أصبحت لاحقا من علامات المطبخ الإيطالي الشهير، والقهوة وقصب السكر اللذان وصلا من أفريقيا وآسيا إلى اللاتينية أصبحا جزءا لا يتجزأ من المحاصيل الزراعية الرئيسية في أميركا الجنوبية، وقد أسست المستعمرات البريطانية جزءا من هذا التراث الحديث. وحتى لا نذهب بعيدا، لا بد من إلقاء نظرة على الفلفل الحار وكيف أصبح لاحقا من اهم مميزات المطبخ الهندي والآسيوي بشكل عام. وتضيف الموسوعة أنه قبل التبادل الكبير هذا الذي غيّر العالم، وغيّر محاصيله وأفكاره، لم يكن هناك برتقال في فلوريدا التي تتغنى به حاليا ولم يكن هناك موز في الإكوادور ولم يكن هناك ببريكا في هنغاريا كما لم يكن هناك بندورة في إيطاليا ولا قهوة في كولومبيا ولا أنانس في جزر هاواي ولا شجر البطاطا في أفريقيا أو ماشية في ولاية تاكساس أو حمير في المكسيك، ولا فلفل حار في تايلاند والهند ولم يكن ممكنا توفر السجائر في فرنسا ولا شوكولاته في سويسرا. يمكن القول هنا إن التبادل الكبير هذا هو أساس كثير من المطابخ الحديثة المعروفة حاليا حول العالم وعلى رأسها المطابخ الصينية واليابانية والفرنسية والإيطالية والتركية وغيرها. فالتبادل لم يمنح مواد ونباتات جديدة يمكن لبعض البلدان الاتكال عليها لإطعام شعوبها فحسب، بل أسس للتنوع الذي كان الصعب على المطابخ التطور من دونه. وقد ترسب هذا الموزاييك النباتي الهام من الطبقات العليا إلى الطبقات الدنيا بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الطعام. ولا شك أن صور الدكاكين أو المراكز التجارية الطافحة بشتى الأنواع والخيرات المتعددة المصادر، تعبيرا حديثا وبسيطا عن طبيعة التبادل الكبير هذا. وحسب الإحصاءات العلمية فإن أهم النباتات التي وصلت إلينا من العالم الجديد، أي من الأميركتين إلى أوروبا وأفريقيا وآسيا هي نبتة الأفوكادو التي تجد رواجا كبيرا هذه الأيام، نبتة البندورة التي أصبحت من معالم المطبخ الحديث في كل مكان، الكوسا والأرز البري والذرة التي أصبحت من أهم المحاصيل في العالم. والفانيليا التي تتكل عليها كثير من الحلويات، والتبغ والبطاطا الحلوة وعباد الشمس والقرع وشجرة المطاط والصمغ ونبتة الكينوا والفستق ونبتة الكاسافا واللوبيا البصلية والفاصوليا الخضراء ونبتة الباهرة التي يطلق عليها اسم صبار أميركا. ونبتة سالف العروس التي كانت تستخدم قديما لوقف نزيف الدم والفليفلة الحلوة والفلفل الحار والكاجو ودوار الشمس الدرني أو الأرتيشوك الأورشاليمي الذي يسمى في العراق بالألمازة أو تفاح الأرض والقصعين الإسباني أو ما يسميه البعض بالمريمية ونبتة اليوكا الهليونية ونبتة البهشية البرغوانية التي تستخدم أوراقها لمشروب المتة وجوز البقان ونبتة الكوكا التي يستخرج منها الكوكايين وتستخدم أوراقها لإنتاج مشروب الكوكا كولا والقطن الذي تتغنى به مصر والقرصعن أو الكزيرة الطويلة. وشتى أنواع الفاكهة مثل فاكهة الفريز والبيطايا والأناناس والقشطة وفاكهة السبوتة التي تنتشر انتشارا واسعا في الفلبين وماليزيا وباكستان وبنغلاديش والهند والتوت التركي والتوت الأزرق والأسود والعناب أو التوت البري وبعض أنواع الصبار، وفاكهة البابايا التي يسمونها في بعض المناطق السعودية بـ«العمبرود» أو «العمب» وفاكهة الكانيستال والعنب وبعض أنواع القشطة الهندية وفاكهة الكيمويا التي يعني اسمها «البذور الباردة» لأنها تنمو على ارتفاعات عالية في جبال الإنديز، وأخيرا فاكهة زهرة الآلام. أما أهم النباتات أو الخيرات التي وصلت إلى الأميركتين عبر التبادل الكولومبي الكبير، فهي من الفاكهة، المشمش والموز والبطيخ والتين ونخيل التمر والحمضيات والمانجو والدراقن أو الدراق والإجاص وفاكهة الأقية الأفريقية. أضف إلى ذلك كثير من الخيرات كالحبق والبندق وبعض أنواع الأرز والبطيخ والسمسم والشاي والقهوة والفجل والفستق الحلبي والصويا والحنطة والجوز والشيلم والمردقوش والأفيون والبصل والزيتون والباميا والشوفان وجوز الطيب والخردل والعدس والخس والدخن وجوزة الكولا والقنب الذي يستغل على نطاق واسع لإنتاج الحبال وأورق والزيوت، أضف إلى ذلك الزنجبيل والثوم والشمر أو الشومر والكمون والخيار والكتان والباذنجان والقرنفل والقرفة والحمص والجزر واللهال والقرنبيط الأخضر والأبيض والملفوف والفل الأسود والهليون. البندورة المكروهة جلب الإسبان البندورة من المكسيك والبيرو في بدايات القرن السادس عشر ونشروها في جميع أنحاء أوروبا والمتوسط إلى أن أصبحت جزءا لا يتجزأ من الخضار اليومية حول العالم وعلى رأس المواد التي يتكل عليها كثير من مطابخ بلدان المتوسط. وقد عانت هذه الفاكهة الهامة التي نعاملها معاملة الخضار، من سمعة سيئة في أوروبا لـ3 قرون طويلة، إذ كانت تعتبر سامة، ولكن وجدت ضالتها في الشهرة عندما بلغ استعمالها المدى أيام الحرب الأهلية الأميركية. وتشير المعلومات المتوفرة في هذا المضمار أن العالم الإيطالي التوسكاني الأصل بييترو ماتيولي، كان أول علماء النبات الذي قالوا بأنه يمكن أكل البندورة أو أنها صالحة للأكل منتصف القرن السادس عشر، ومن هناك بدأت تصل إلى إيطاليا وبدأ اسمها يصبح جزءا لا يتجزأ من القاموس المطبخي. وقد عثر على بدايات اسمها الـ«بومودورو» في رسائل دوق توسكانا ماسيمو دي ماديتشي يؤكد وصولها إليه بأمان. كما ذكرها مدير حدائق مدريد أيام الملك الإسباني فيليبي الثاني على أنها صالحة للصلصة نهاية القرن السادس عشر. ومع هذا كان بداياتها في إيطاليا للتزيين وكان الناس يقصدونها لغايات جمالية لذا كان يزرعونها كالأزهار والورود. ولم تصبح البندورة ملازمة للباستا الإيطالية أو جزءا من صلصة البيتزا إلا في القرن التاسع عشر. البطاطا والمجاعة الآيرلندية يقول البعض إن البطاطا إلى آيرلندا مبكرا ومع وصول الأرمادا الإسبانية على الشواطئ البريطانية، لكنّ المؤرخين يعتقدون أنها وصلت بدايات القرن السابع عشر، إذ وجدت رواجا ونجاحا كبيرين لأنها رخيصة وقادرة على النمو في تربة حمضية فقيرة، وقد ساعد على ذلك بالطبع استخدام الرمال وبقايا الصدف والطحالب والأعشاب البحرية المتوفرة كثيرا في آيرلندا كسماد لتحسين التربة. ومن هنا بدأ كثير من الناس الاعتماد على البطاطا كمصدر أساسي للتغذية والعيش نتيجة للفقر المدقع، ولهذا الاعتماد الكبير على البطاطا كانت نتائج المجاعة الآيرلندية الكبرى كارثية منتصف القرن التاسع عشر، إذ مات أكثر من مليون إنسان وهاجر أكثر من مليون آخرين إلى الولايات المتحدة الأميركية طلبا لحياة جديدة أقل شقاء. وقد حصلت المجاعة بعد أن أتلفت إحدى الآفات الزراعية محاصيل البطاطا في آيرلندا وجميع أنحاء أوروبا. وتعتبر هذه المجاعة محطة فاصلة في تاريخ آيرلندا الحديث، إذ غيرت الطبيعة الثقافية، السكانية، البيئية والسياسية للبلاد. ومن غريب الأمور أن البطاطا عندما دخلت الجزيرة الآيرلندية عبر أميركا اللاتينية لم تكن إلا نبتة من نباتات الزينة، ولم تصبح مصدرا لإطعام الفقراء وعلفا للحيوانات إلا لاحقا. ودلالة على التشابك أو الترابط الجديد بين مختلف دول العالم وقاراته، فإن الآفة نفسها التي أطلق عليها اسم «اللفحة المتأخرة» جاءت أيضا من مزارع المكسيك وانتشرت عبر البواخر الأوروبية في كل من أميركا الشمالية وفي هولندا وبلجيكا وجنوب إنجلترا وشمال فرنسا. وصلت البطاطا اللاتينية إلى أميركا الشمالية بداية القرن السابع عشر، ورغم ذلك لم تنتشر عمليات إنتاجها على نطاق واسع إلا في القرن التاسع عشر في نيو إنغلاند أو إنجلترا الجديدة مع وصل المهاجرين الآيرلنديين. ولم تستحصل الولايات المتحدة الأميركية 250 نوعا من أنواع البطاطا حاليا، لكن قبل وصول البطاطا اللاتينية كان الهنود الحمر قبل وصول الإسبان إلى أميركا يزرعون أكثر من 3 آلاف نوع من البطاطا المحلية. وقد أصبحت البطاطا حاليا رابع أهم المحاصيل في العالم وخصوصا في روسيا. وقد استخدم الإسبان البطاطا ونبتة الكوكا لإطعام عمال مناجم الفضة وإبقائهم أحياء، وبعد أن جلبوها إلى إسبانيا انتشرت في أوروبا ووصل انتشارها أخيرا إلى أكثر من 130 بلدا.